حركة جيل زد…الجزء الثاني: الاقتصاد والاجتماع، أين الوجهة؟
03/11/2025
0
التقدم وتمثلات المغاربة: إننا نُجدِّف في محيط من التراجعات!
بقلم الباحثة والناشطة الحقوقية حكيمة ناجي
لماذا يشعر المغاربة أن بلادهم لاتزال عالقة في التأخر وعاجزة عن الإقلاع رغم ما عرفته خلال العقدين الأخيرين من تقدم؟
لماذا استطعنا بشكل مقبول في البنيات الصلبة، وفشلنا بشكل ملحوظ في البنيات الناعمة؟ لماذا يقدرون أن سوء حال التعليم والصحة وتدني مستواهم المعاشي إنما ناتج عن انعدام الإرادة وليس عن ضعف الاستطاعة؟
لا يمكن أن ننكر بعض التقدمات التي حققها المغرب خلال العقدين الأخيرين بما في ذلك التنمية البشرية، لكنها تبقى بطيئة مقارنة مع الإمكان المغربي، وكذلك لم تعد وتيرتها تتناسب مع تمثلات الناس وحاجياتهم المتزايدة ورغباتهم، وهو ما جعل المغاربة، أفرادا وجماعات، في حالة احتجاج دائم.
الممانعة الأممية ستزداد حدة وتنسيقا وابتكارية في المستقبل غير البعيد
الجديد في ذلك أن الاحتجاجات أصبحت تتم من خارج الأحزاب والنقابات والمجتمع المدني، دون أن يعني الا أثر للأصوات الديمقراطية منها المطالبة بالتغيير في ذلك، ولكن وفي نفس الان، تحت تأثير بزوغ ممانعة أممية ساعدت في انتشارها وسائلُ التواصل الخوارزمية.
وسوف تزيد هذه الممانعة الأممية حدة وتنسيقا وابتكارية في المستقبل غير البعيد، جراء رأسمالية المراقبة غير المنتجة للعمل والمتمركزة عند ألغارشية الخوارزمية، وجراء العواقب المدمرة للبيئة ولجميع أصناف الامن (المائي، الغذائي، الحروب التكنولوجية الدقيقة المستهدفة للحياة…).
وقد دخل العالم في سيرورة التراجع وضعف قيم مؤشر التنمية البشرية، وسوف تتزايد الفوارق بشكل صارخ، من جهة داخل الدول وعلى الخصوص منها الدول النامية، ومن جهة أخرى بين الدول التي تملك القوة العلمية والتكنولوجية والاقتصادية والدول المستهلكة لكل ذلك.
سجل العالم علاقة بمؤشر التنمية البشرية أضعف نسبة له طيلة 35 سنة الأخيرة
تكفي قراءة سريعة للتقرير الأخير لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي لنقف على مسلسل التراجعات التي تتهدد العالم. إذ سجل العالم علاقة بمؤشر التنمية البشرية أضعف نسبة له طيلة 35 سنة الأخيرة كما جاء في تقرير هذا المؤشر الذي تم نشره هذه السنة 2025.
ومن ضمن العوامل المؤدية إلى هذا الانخفاض، أكد التقرير على ثلاثة، التوترات التجارية، التي تنذر بأزمة عالمية لن تكون بالبعيدة، وأزمة الديون، التي تستنزف خزينة الدول، مع تنامي صناعة بدون فرص شغل. وبهذا تكون أجندة أهداف التنمية المستدامة 2030 قد تحولت إلى مجرد حلم أممي جميل بعيد المنال!
هذه العوامل مجتمعة موجودة بالمغرب، وسوف تشكل ضغطا حقيقيا على سياساته الداخلية إذا لم يقم بمراجعة وتصحيح حقيقيين في ترتيب أولويات التنمية في كل مستوياتها، الاجتماعية، والاقتصادية، في السياسة المائية، في الطاقات المتجددة…الخ. علاوة على دائه الأصلي المبني على ديمقراطية متعثرة ومبتورة، واقتصاد مرهون لعوامل خارجية، الطقس من جهة، والتوازنات الدولية من جهة أخرى؛ مع إمكان بشري ضعيف التأهيل بالخصوص في عالم الصناعة الخوارزمية والأزمات البيئية، وفوارق اجتماعية، وعلاقة متوترة بحقوق النساء والمساواة، تضعف من مناعة المجتمع حيال المخاطر العالمية.
إننا والحالة هذه نجدف في بحر من التراجعات.
في سياق التراجع هذا الذي سوف يتميز بشح الموارد وتزايد الحاجيات، يجب بناء الرؤية الاجتماعية، (على الخصوص التعليم والصحة والحماية الاجتماعية والسكن والنقل العمومي وكذلك الترفيه لأنه حق من حقوق الإنسان أيضا)، والروية الاقتصادية الملائمة لبلادنا.
سوف أقتصر هاهنا على التعليم والصحة المطروحين بإلحاح في النقاش، مع لمحة خاطفة عن كيفية مقاربة الاقتصاد حتى يتلاءم وخدمة المواطن والمواطنة.
التعليم والصحة في عمق السياسة: من أجل القطع مع الاستثمار الخاص
التعليم والصحة والحماية الاجتماعية حقوق أساسية للجميع، على قدم المساواة وبدون أي تمييز.
وهي مكفولة بالقوانين الوطنية والأممية، وبالحس الإنساني السليم أساسا. لكن أعطابَها، ومعاناة الناس جراءها لا تخفى على أحد.
وقد جعلتها حركة جيل زد في مقدمة جدول أعمال النقاش العمومي اليوم، شعبيا ورسميا.
فإذا كان من واجب الشعب المغربي أن يُسمِع صوته، فمن واجب الدولة أن تَسمعه وتُجيب عنه، وهو ما دأبت على فعله، وهو أمر يحسب لأعلى سلطة في البلاد وليس العكس.
وإذا كان الجواب الرسمي اعتبر أن ازمة التعليم والصحة تتمثل في ضعف الموارد (مادية وبشرية) المرصودة، وفي سوء الحكامة، فإن السؤال مرة أخرى الذي يقض مضجعنا، هل حل هاتين المشكلتين سوف يحقق شعار ” تعميم خدمة عمومية بدون تمييز في تعليم وصحة جيدين”؟، أم أن الأمر سوف يكون مرة أخرى مجرد زوبعة تفوت فرصة الإصلاح؟ عوض القيام بمراجعة حقيقية للمقاربة الأصلية التي شوهت الحقوق واعتبرتها مجرد خدمات قابلة للتسليع.
إننا أمام تحدي كبير، تحدي توفير تربة مشجعة على استنبات مضمون هذا الشعار المأمول؟ فما هي مقومات هذه التربة؟ وللجواب على هذا السؤال الأخير، يطرح سؤال آخر، ما الذي يعوق وسوف يعوق كل مجهودات الإصلاح مهما كانت صادقة وهامة؟
لمقاربة هذه الأسئلة، علينا العودة إلى تحليل الفلسفة السياسية المؤطرة لكل محاولات الإصلاح التي، إلى حد الآن، لم تعرف إلا الفشل تلو الآخر في هذه القطاعات الحساسة بالنسبة لتقدم الشعوب.
فطبيعة هذه الفلسفة السياسية هي ما يفرض مضمون الاجتماع والثقافة والاقتصاد والسياسة، ويربط بينها خدمةً لمصالح فئات قد تضيق أو تتسع.
لنسق مثالا على ذلك، لماذا الأنظمة الرأسمالية اليوم تقوم بالتحايل على المكتسبات الاجتماعية باللجوء إلى عمليات معقدة غير مسبوقة وغير مقبولة شعبيا، في حين ترفض الخوض في عمليات أكثر بساطة وسلاسة ولن تؤدي إلى عواقب وخيمة كما هو الشأن بالنسبة لآثار سياساتها على فئات واسعة، ألا وهي تضريب الثروات والأصول؟
مثال ثان، الخدمات التي يقدمها عرابو هذه الفلسفة السياسية بهدف تسليع حقوق أساسية مثل التعليم والصحة، تحت يافطة الحرية والمنافسة والتكاملية.
المنافسة في السطو على جيوب الناس والصناديق الاجتماعية
والحال أن هذه الحرية ليست إلا حرية القضاء على الخدمة العمومية لهذه الحقوق، والمنافسة في السطو على جيوب الناس والصناديق الاجتماعية، والتكاملية في إذكاء فقدان الثقة في الخدمات العمومية حتى يبقى لقمة صائغة في فم القطاع الخاص.
يكفي الاطلاع على بعض التقارير لبعض المؤسسات الدستورية (مجلس المنافسة، المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، المجلس الأعلى للحسابات)، والتقارير السنوية لبعض المؤسسات الصحية الخاصة التي يبدو أنها أصبحت تهدد القطاع العام عبر ما تعبر عنه من طموح في التوسع،
وكذلك ما تقوم به من سرقة لموارده البشرية والمادية على حد سواء.
عندما تباع الصحة والتعليم، ويُحمى أصحاب الثروات، فهذا يعني أن الحلول التي يقترحها حماة السوق سوف تكون على حساب الناس بأجيالها الحالية والمستقبلية، وسوف لن تعمل على الحل الناجع والمستدام لهذه الإشكاليات.
ويعني في المحصلة أن الفلسفة السياسية التاوية خلف هذا التموقفِِ نيوليبراليةٌ، لا تكترث لا بالإنسان ولا بالبيئة، وفي خدمة الرأسمال الذي يحتاج لبعض المساحيق الاجتماعية التي تفرضها ظروف ما، دون أن تقطع مع خلفياتها السياسية المبنية، تارة على خلفية ” أن الله فرق في الأرزاق”، وكأننا لا نزال في اقتصاد الانسان-الحيوان، نهيم على الأرض ولكل رزقه، وتارة أخرى، على خلفية “الاستحقاق” المتعدد المصادر والمبني على “المنافسة”، حرب الجميع ضد الجميع، والتي تعتبر من لم “يفلح” وما يحصده في مستوى الحياة التي يحيى، إنما هي مسؤولية فردية، الدولة والمجتمع منها براء.
هذه هي الخلفية الأيديولوجية لما يعرض أمامنا من أشباه حلول وإن بدت ظاهريا أنها مهمة. لنقف على الأعطاب الحقيقية التي تعوق تحقيق العدالة الاجتماعية والمجالية، والتي تحتاج منا التفكير الجماعي العمومي حتى نقارب لها مشاريع أجوبة مستدامة.
أعطاب التعليم الكبرى:
1.تسليع الحق في التعليم: القطاع الخاص يعمق الفوارق المجتمعية
إن الاستثمار الخاص في هذه الحقوق وغيرها يشكل أحد الأعطاب الكبرى في السياسة الاجتماعية.
وقد جاء ذلك نتيجة غطرسة الرأسمالية النيوليبرالية التي حولت الحياة إلى مجرد سلعة وسوق، وسوقت ذاتها أن لا حل للإنسان غير ما تقترحه، ببسط سيطرتها على مؤسسات إنتاج المعرفة والتعليم والتكوين، إذ شلت بذلك قدرات التغيير وإمكاناته في استعادة الحياة والتوازنات الطبيعية إلى مركز الصدارة.
ومبتدأ بناء أي حل، يقف على نقد مصادرة هذه الحقوق كمقدمة لنقد تصاميم تدبيرها التي تجيب أولا على حاجيات السوق النيوليبرالي، وليس على حاجيات الإنسان والبيئة.
وعدم الخوض في هذا المستوى، لا يعني إلا تأجيل الحلول والمعالجة الناجعة والفعالة. فالحكامة، ورصد الميزانيات المناسبة، والتكوين الكافي للموارد البشرية، ضرورية، ولكنها غير كافية وحدها لتقضي على الفوارق والاقصاء.
والمحصلة هي ما نعيشه وما سوف تعيشه أجيال أخرى، انعدام الفعالية في التعليم والصحة والحماية الاجتماعية، المفصلة على مقاس حاجيات السوق المذكورة آنفا.
إن القطاع الخاص بطبيعته جشع، لا راد لنهمه وبكل الطرق من تحقيق مزيد من الربح، مما يغذي رغباته في التوسع والاحتكار وإضعاف الخصوم، وفي هذه الحقوق يشكل القطاع العام خصمه الرئيسي وسوف تُضيِّع الدولة طاقة وجهدا وموارد عمومية للحد من آثار نهمه، ولن يجدي ذلك نفعا معها.
لنأخذ ما يعيشه التعليم منذ فتح الباب أمام الاستثمار الخاص. ولتكن بداية التحليل من الميثاق الوطني للتربية والتكوين الذي عين له الملك الراحل الحسن الثاني في آخر أيامه لجنة ملكية خاصة تشكلت من هيئات وفعاليات مختلفة، تربوية ومهنية سياسية ونقابية، وصدر الميثاق في عهد محمد السادس.
قدمها هذا الأخير في خطاب افتتاح الدورة الخريفية للسنة التشريعية الثالثة (أكتوبر 1999)، لوضع مشاريع قوانين توفر إمكانات تحقيقه، وليس لمناقشته.
وليس من غريب الصدف إن احتل فيه ربط التعليم بالمحيط الاقتصادي المجال الأول من مجالات التجديد، قبل مجالي البيداغوجية والجودة. فلم نفلح لا في هذه ولا في تلك، دون إغفال توسعه على المستوى الكمي والمجالي.
ووضع الميثاق بلوغ التعليم الخاص نسبة 20 بالمائة من حيث عدد المستفيدين والمستفيدات، هدفا له. وأعطى البرنامج الاستعجالي (2009-2012) دفعة جديدة لهذا الصنف من التعليم، بإعطائه تشجيعات ضريبية وغير ضريبية.
مجلس المنافسة ليس المؤسسة المناسبة لمعالجة موضوع المدارس الخاصة ومدى احترامها لقواعد المنافسة
أحمد رحو رئيس مجلس المنافسة
وفي سياق تمكُّنِ الثقافة السوقية وسط مؤسسات الدولة ونخبها، طرح البرلمان موضوع المدارس الخاصة على مجلس المنافسة للنظر في مدى احترامه لقواعد المنافسة، على إثر اندلاع الأزمة بين الآباء والمدارس الخصوصية إبان جائحة كوفيد 19.
والحال أن مجلس المنافسة ليس المؤسسة المناسبة لمعالجة هذا الموضوع، بل كان من الأنسب طلب رأي المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي فيه بالنظر إلى تركيبته المتعددة.
وكذلك كان، فقد تعامل معه مجلس المنافسة من زاوية اختصاصاته: العرض والطلب والعوامل الإيجابية والسلبية لنموه.. وسماه “سوق التعليم الخصوصي”.
والتقرير غني من حيث المعطيات المتعلقة بتطور القطاع الخاص في المنظومة التعليمية، ومنها ما يستوجب دق ناقوس الخطر على المنظومة بكاملها.
يُلاحَظ هجوم ملحوظ من حيث عدد المؤسسات الخاصة ووتيرة انتشارها مقارنة بالعمومية، إذ سجل التقرير انها بلغت 35.71% (2019-2020)، وفي التعليم الإعدادي لنفس الموسم احتلت نسبة 45.7%. وكعادته، القطاع الخاص لا يستثمر حيث تغيب الخدمة العمومية أو تكون ضعيفة، هذا ليس من مهامه، بل لا يستثمر إلى في الأماكن التي تتوفر على “السوق” (الدار البيضاء، الرباط…).
وقد سجل التقرير تقابل خريطة الفقر بخريطة القطاع الخاص في التعليم.
إن ما يكبح شَرَهَ القطاع الخاص في التعليم ليست سياسة الدولة، بل القدرة الشرائية الضعيفة لغالبية المغاربة، وإلا لبدأنا نشهد إغلاق المؤسسات العمومية الواحدة تلو الأخرى. وقد تسوِّق الدولة يوما ما لفكرة غريبة، الحماية الاجتماعية لتغطية نفقات التعليم، والتي سوف تبدو في الظاهر اجتماعية، غير أنها لا تخدم إلا القطاع الخاص، وتزيد في إضعاف التعليم العمومي وتغذية الفوارق المجتمعية. كما حدث تماما في الصحة الذي سوف نقف عنده بناءً على ما جاء أيضا في تقرير مجلس المنافسة حول المصحات الخاصة والمؤسسات المدمجة.
وعلاوة على أن القطاع الخاص في التربية يقتات على الطاقات البشرية للقطاع العام، الطامعة في تحسين ظروف عيشها المستنزفة من أجل توفير ظروف تعليم وصحة وسكن ونقل، إنسانية لأبنائها، فإنه يغذي عندها قيما سلبية، من تفشي الفردانية، والتهافت على تحسين الدخول عن طريق العمل في القطاع الخاص على حساب الجودة في القطاع العام، مع تركه عرضة لقانون السوق وقواعده التي لا وازع لها إلا تحقيق الأرباح وبكل الطرق بما فيها مص دماء القطاع العام. بل أكثر من ذلك تمتيعه بالتحفيزات المستمدة من جيوب دافعات ودافعي الضرائب.
إن القطاع الخاص يشكل سوسة حقيقية تنخر جسم القطاع العام العليل.
2.انعدام الاستقلالية وضعف الإرادة السياسية
لا يزال المغرب يعاني جراء عدم قدرته على ضمان سيادته السياسية رغم الكوارث التي جنيناها من ذلك في التعليم والصحة بالخصوص مع التقويم الهيكلي في بداية الثمانينات.
ويستمر تدخل البنك الدولي في الشأن الداخلي للمغرب إلى الآن. وهنا لابد من الرجوع إلى ما قبل الميثاق وخلفيات تأكيد الخطاب الملكي (أكتوبر 1999) على التدرج في ضرب المجانية.
قامت “اللجنة الوطنية المختصة بقضايا التعليم”، التي عين الحسن الثاني سنة 1994، بتكريس أربعة مبادئ أساسية، التعريب، والتوحيد، والمجانية، وإلزامية بالنسبة للفئة العمرية 6 سنوات إلى 16 سنة، أي التعليم الأساسي. لكن البنك الدولي لم يتردد في الدخول على الخط في 1995، وينبه المغرب على مراجعة المجانية، مما سيفرض تعيين اللجنة الثانية المذكورة آنفا، وباقي المسلسل أصبح معروفا.
يرجع انعدام الاستقلالية إلى أربعة أسباب، أولها ارتهان الاقتصاد المغربي بعوامل خارجية (الاستثمار الخارجي، الدين، وسياسة التصدير) وهذا وجه من أوجه الإرث الاستعماري؛ ثانيها، وجود نخبة غير قادرة على القطع مع هذا الإرث لأنها بنت عليه مصالح فئوية؛ ثالثها، نتج عنه ارتباط عضوي لهذه المصالح الفئوية بدوائر السلطة؛ رابعها، هشاشة الفعل الشعبي لوضع حد لهذا الارتهان.
تقاطب حاد لقوى المجتمع
علينا القول إننا قد عجزنا في بناء عقد اجتماعي منسجم وواضح مبني على القيم الإنسانية والعدالة البيئية، وإن أصبحنا نتلمس بعض خيوط الضوء في النقاش العموم بين القوى المتصارعة، علينا ألا نستهين بأهميتها وأن نعمل على ترصيدها وتطويرها بمزيد من الانفتاح عن بعضنا البعض.
إن تقاطب قوى المجتمع الحاد يضيع علينا فرص دمقرطة الدولة والمجتمع، ويفتح الأبواب على مصراعيها لمزيد من غطرسة النيوليبرالية والحكم التسلطي.
ولا يبدو في الزمن المنظور إمكانية تذويب عوامل هذا التقاطب الذي تحتل إشكاليات، المساواة بين النساء والرجال، من جهة، وطبيعة النظام السياسي، من جهة أخرى، إحدى ركائزه الأساسية.
أعطاب الصحة
ما قيل أعلاه عن محددات السياسة التعليمية وعوامل أزمة التربية ببلادنا، هي نفسها العوامل التي تعيق الصحة من الخروج من أزمتها البنيوية التي يتحمل مسؤوليتها كل من الدولة، والقطاع الخاص، والفاعل السياسي المدني الذي عجز عن طرح بدائل بنيوية تخرجه من نفق الحلول الترقيعية، إلى ساحة الخدمة العمومية الجيدة للجميع، والقيام بتحليل السياسة الصحية وصنوتها السياسة الاجتماعية، على أساس أن الصحة، حسب المعايير الأممية، حق، مكرس في الدستور المغربي، مبني على أساس الحاجة وليس القدرة على الأداء للاستفادة من الخدمات الصحية الجيدة. غير أن واقع الأمور يجعل الناس بين نارين، ضعف الخدمة العمومية، وجشع الخدمة الخصوصية التي لا تكون بالضرورة جيدة.
وهنا أيضا، نعود إلى التقرير الذي أصدره مجلس المنافسة في إطار إحالة ذاتية حول “سوق” الخدمات الصحية للمصحات الخاصة والمؤسسات المدمجة من زاوية التنافسية (2022)، على ضوء الإصلاحات التي عرفها قطاع الصحة وفي سياق تعميم التغطية الصحية الإجبارية (AMO).
ويتبين من خلال النتائج العينية أن سياسة التغطية الاجتماعية كان المستفيد الرئيسي منها هو القطاع الخاص الذي قضم نسبة عالية من عوائدها.
ولقد وقف هذا التقرير على معطيات صادمة تفسر معاناة الناس في هذا النظام الذي لم يعد هامشيا، بل إنه في حرب هادئة من أجل الاستيلاء على ما تبقى من الخدمة العمومية.
فلنتمعن ما جاء في تقرير مجلس المنافسة من معطيات لا يمكنها إلا أن تكون صادمة للعقل الاجتماعي. يستحوذ القطاع الصحي الخاص على 52,3% من مجموع الأطباء الممارسين، و88,3% من بنيات العلاجات الأولية، و33,6% من القدرة الاستيعابية الاستشفائية (hospitalisation).
وحسب آخر الحسابات الوطنية للصحة (2018)، فإن القطاع الخاص قد ادخل إلى صناديقه ما يعادل 69,8% من مجموع المصاريف الجارية للصحة، مقابل 23,1% بالنسبة للقطاع العمومي، ولسنا ندري كيف أصبح واقع الحال اليوم. وهذا لا يعني أن ما قدمه القطاع الخاص من خدمات كانت مناسبة لما اكتنزه من مداخيل. وبالملموس، يظهر أن مبدأ التكامل بين الخاص والعام الذي ينص عليه القانون المتعلق بالخريطة الصحية رقم 34.09 (2011)، في مادته التاسعة، والذي يسوق له عبر القوانين الأخرى التي تنظم هذا القطاع، ليست إلا لغوا يخفي جشع القطاع الخاص ونهمه الذي لا حدود له، إذ كل الوسائل تصبح مشروعة في سبيل تغطية مصاريف البنيات والمعدات في أقصر وأسرع وقت، مع جني الأرباح ولا شيء غير ذلك.
وخلاصة القول، إن القطاع الصحي الخاص يشكل طفيليا ينخر، من جهة، جسم القطاع العمومي، من حيث الموارد البشرية لأنه لا يتوفر عليه، كما ينبت حيث يوجد عرض عمومي، وليس حيث توجد الحاجة وتعجز الدولة، ومن جهة أخرى، يساهم في الإضرار بالقدرة الشرائية، ويعمل على إضعاف الطبقات المتوسطة.
إذا كان هدف الحكومة تعزيز المراقبة للحد من تجاوزات القطاع الصحي الخصوصي، كما جاء في كلمة وزير الصحة في البرلمان (1 أكتوبر 2025) (لجنة القطاعات الاجتماعية)، فإن هدف الإصلاح الفعلي لمنظومة الصحة، يجب أن يكون القطع مع هيمنة القطاع الخاص، خصوصا تلك المصحات العملاقة التي أصبحت تنبت بشكل مخيف مستنزفة الجيوب دون حسيب ولا رقيب، وتعويضه بالخدمات الصحية العمومية.
يمكن إجمال العوامل التي نتجت عنها أزمة الصحة العمومية أيضا في أربعة: خضوع السلطات العمومية، وجبن الرأسمال وجشعه، وعجز الفاعل السياسي، وتخاذل الفاعل الطبي. تكالبت عليه كل هذه العوامل لتجرده من طابعه الحقوقي الإنساني، ولتزيد المريض أمراض أخرى عوض أن تكون له ملاذا آمنا.
تحرير الاقتصاد من سطوة النيوليبرالية والإرث الاستعماري
قد لا نحتاج لكثير من الجهد لنبرهن على أن الإنسان لم يكن أبدا عبر تاريخ الرأسمالية حتى الآن همًّا أساسيا في التفكير الرأسمالي. وأن ما حققته الإنسانية من مكتسبات اجتماعية، إنما بفضل نضالات الطبقات العاملة وما يتيحه ضغط الرأسمال، مما عاق إمكانية وضع الإنسان كأساس في تصميم الاقتصاد. وسوف لن يبقى الحال كما هو عليه اليوم، بل سيفقد الإنسان اعتباره ويسفه مع الرأسمالية الخوارزمية، وتستنزف البيئة أكثر فأكثر.
لقد تحول الاقتصاد إلى أكبر ماكينة أيديولوجية في خدمة الفكر النيوليبرالي الوحيد، على طرفي نقيض مع الفكر الليبرالي الأول المستمد من فكر الانوار الذي يعلق السوق بالديمقراطية، حيث الحرية للجميع في ولوج عالم الاقتصاد، والمنافسة كنقيض للاستحواذ والاغتناء، وحيث تكون الأرباح معقولة، والعمل للجميع، (كتاب الليبرالية في مواجهة الرأسمالية، فاليري شارول، 2006). مع ما أصبح يقتضيه هذا الفكر اليوم من التطوير على الأساس البيئي واحترام حاجيات الأجيال القادمة.
إن الفكر النيوليبرالي قد بسط نفوذه على كل مؤسسات إنتاج المعرفة (الجامعة، والبحث العلمي، والإعلام) والوعي، وحولها إلى جيوش لقتل التعددية الفكرية وإجهاض البدائل والتعتيم عليها. ولن يتحرر علم الاقتصاد من سطوة الاوليغارشية النيوليبرالية إلا إذا أصبح عموم الناس يخوضون غمار فهمه وإبداء الرأي في فلسفته وخلفياته السياسية والاجتماعية والثقافية والبيئية، وأدوات اشتغاله…الخ. وهذا لا يتأتى إلا إذا أعيد تحرير الجامعة من قبضة هؤلاء، واستعادت استقلاليتها، وأنفق عليها من الأموال العمومية ما يكفي لإنتاج المعرفة العضوية، واهتمت مؤسسات الوساطة به كما تفعل مع السياسات الأخرى. وهذه مهمة نضالية تحتاج لفاعلين وفاعلات عضويات في البحث على محركات بديلة لاقتصاد وطني.
إن الاقتصاد المغربي يعاني من أعطاب بنيوية تعوق كل نهضة مأمولة. وفي كل الأحوال، وإن كنت لا أضع تقديم تشخيص مدقق للاقتصاد ومعيقات نهضته كهدف، فإنني أعتقد أنه ليس معقولا ولا سليما أن يبقى حكرا على اهل الاختصاص الاقتصادي وحدهم. فيكفينا للوقوف على اختياراته اللاوطنية، الاطلاع على مجموعة من التقارير الوطنية والدولية، علاوة على ما يعيشه الناس يوميا، وعلى عجز المغرب عن الإقلاع من الفئة الدنيا للدول ذات الدخل المتوسط، ليتبين الخلل، وتطرح الأسئلة.
ترجع أزمة الاقتصاد المغربي، منذ ما يقارب سبعة عقود من الاستقلال، إلى كونه اقتصادا خاضعا لعوامل، منها ما لا سلطان له عليها، ومنها ما هو ناتج عن اختيارات سياسية وطموحات أكبر مما يتيحه حجم هذا الاقتصاد وتوجهاته غير المستقلة التي ورثها عن تاريخه الاستعماري.
فمن جهة، فلاحة مرتهنة بالتساقطات المطرية، وغير مبالية بالإجهاد المائي الذي أصبحنا نعاني منه وبشكل بنيوي، علاوة على أنها غير موجهة لتؤمن الأمن الغذائي الداخلي، بل حتى الجزء الآخر المسقي منها موجه للتصدير بدون قيمة مضافة، في ظل ضعف صناعة غذائية تعمل على تثمين منتجاته. نفس الأمر ينسحب على الثروة السمكية غير مثمنة أيضا الموجهة في جزء كبير منها نحو التصدير. أما بالنسبة للصناعة، فيعتمد المغرب على التصدير وعلى الاستثمارات الخارجية.
فلم يستطع أن يكون منافسا في الأسواق العالمية في القطاعــات التقليديــة ذات المحتــوى التكنولوجــي المنخفــض، والتـي تشغل يــد عاملــة كثيفــة محــدودة التأهيـل وضعيفـة الإنتاجية. مع ترك السوق الداخلية عرضة لمنتوجات استهلاكية أجنبية كان بالإمكان إنتاجها محليا، من شأنها تشغيل يد عاملة مهمة (الملابس، والتجهيزات المنزلية وغيرها).
كما أنه عجز أيضا على تحقيق اندماج وطني حقيقي للمقاولات الوطنية في الفـروع الاقتصادية ذات القيمـة المضافـة العاليـة والمعتمـدة علـى التكنولوجيـات المتقدمـة وعلـى يـد عاملـة مؤهلـة (قطاع السيارات والطائرات والصناعات الإلكترونية). وحتى طموحه في تطوير هذه القطاعات ذات القيمة المضافة العالية يبقى معتمدا أساسا على المقاولات الدولية المستقرة بالمغرب، حالما أنها سوف تشكل يوما قاطرة تحفز وتيرة النمو وإحداث مناصب الشغل المؤهلة.
وبهذا تبقى اختياراته من أجل تعزيز اندماجه في سلاسل القيمة العالمية مرتهنة بالاستثمار الأجنبي. ما أشبه اليوم بالأمس، عندما أرادت الدولة المغربية خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر تحديث جيشها وإصلاح إدارتها وتعليمها، إذ اعتمدت على الدول التي كانت لها أطماع في المغرب، فلم نجن إلا خراب “الحماية” فيما بعد.
وبالرغم من المجهودات الكبيرة التي تبذلها الدولة، فإن نسبة التدفقات الصافية للاستثمار الخارجي في الناتج الداخلي الخام بدأ يعرف عدًّا تنازليا منذ 2016، لتتراجع خلال الفترة 2021-2024 إلى نسبتها خلال التسعينيات حسب ما جاء في نقط اليقظة للتقرير السنوي 2024 للمجلس الاقتصادي.
هذه المقاربة الاقتصادية هشة، وسوف تعرف هشاشة أكبر مع تنامي السياسات الحمائية والقومية من لدن الدول الصناعية الكبرى في ظل عالم الأزمات. فكل ما عولت الدولة على تحقيقه من وراء سياسة الاستثمارات الخارجية، اتسمت نتائجه الفعلية بالهشاشة من حيث محدودية الأرباح المعاد استثمارها بالبلاد. (لم تتجاوز حصة الأرباح المعاد استثمارها 11 في المائة من إجمالي صافي الاستثمارات الأجنبية المباشرة التي استقبلها المغرب خلال الفترة .2023-2013)، ومن حيث المساهمة الفعلية للاستثمارات الأجنبية المباشرة في إحداث فرص الشغل داخل القطاع الصناعي، فإنها قد بقيت محدودة على العموم، ولم تزدد تنافسية المقاولة الوطنية كما كان متوقعا، خصوصا في المهن العالمية ذات القيمة العالية، مع إدماج وطني ضعيف لا من حيث الرأسمال ولا من نقل المهارات.
كما أكد ذلك تقرير منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية (94 في المائة من رأسمال المقاولات بقطاع صناعة السيارات من أصل أجنبي، وتصل هذه النسبة إلى 96 في المائة بالنسبة لقطاع صناعة الطيران). تؤكد منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية في تقريرها (2024) أن أغلب المجهزين والمزودين من الدرجة الأولى والثانية في قطاع صناعة السيارات، هم من ذوي الرأسمال الأجنبي، في حين أن المقاولات الصناعية المغربية لا تتدخل إلا كمزود في الدرجة الثالثة أو الرابعة.
في مواجهة هذا الاختيار الاقتصادي التابع للرأسمال الخارجي في زمن الاضطرابات العالمية، تصبح الحاجة ماسة إلى الفاعل السياسي الذي يتحلى بابتكارية اقتصادية واجتماعية خلاقة وجرأة سياسية لفكها من براثن الإرث الاستعماري، ومن تحكم الدوائر الاقتصادية والمالية الدولية، ومن سياسة التبعية التي تنخرط فيها السلطة الحاكمة المدعومة بالأحزاب “الليبرالية” والمحافظة الدينية على حد سواء. هذا الفاعل المعول في بناء معالم بديل اقتصاد وطني لا يمكنه أن يكون إلا من القوى الحية المغربية النزيهة المنخرطة في رؤية جديدة للتنمية، ألا وهي التنمية المستدامة، المستجيبة للحاجيات الوطنية اقتصاديا، ولكن في احترام للبيئة علاقة بأنماط الإنتاج والاستهلاك. مع استحضار أننا نعيش في زمن نمو صناعة مبنية على الخوارزمية، ذات قيمة مركزة بين يدي أليغارشية العالمية.
هذه الصناعة الجديدة سوف تعمل على المزيد من القضاء على فرص الشغل لفئات واسعة من المواطنين، والمزيد من الاقصاء وعدم الاستقرار الاجتماعي.