الجيلالي بن العربي يتفلسف في عيد العمال
ها هو فاتح ماي يعود كل سنة في موعده، لا يتأخر ولا يغيب، فمادام الزمن منسابا، ومادامت الحياة قائمة، فإن فاتح ماي موجود، والعيد قائم مادام هناك عمال يكدحون ويعرقون من أجل لقمة طعام، يبنون بسواعدهم ثروات أرباب العمل في حين هم يجرون يوميا وراء قروش، يحارون أين يصرفونها أعلى بطن جائع؟ أما على سكن مفقود؟ أم على صحة عليلة؟
أي حياة هاته؟
كلما مرت السنوات يزداد أرباب العمل غنى، بل ويفحشون في غناهم بينما يبقى العامل فقيرا على الحديدة، جائعا يطارد أحلاما وردية لا تمنحه نفسها، فيجري وراءها حتى يقع في حفرة لا ينهض منها أبدا. ولا يدري بعدها من تخلف وبقي على قيد الحياة هل قبض عليها وذهب الى الجنة أم أنه انكسر خاطره وذهب إلى النار وسيقاسي في خلود أبدي عذابا يفوق ما قاساه هنا.
أهذه هي الحياة؟ أهذه هي العدالة الاجتماعية والتضامن الطبقي؟ أم أننا مجرد كائنات أيديولوجية تعيش وتحيا بالديماغوجية؟
أي حياة هاته التي يزداد فيها الغني غنى ويغوص فيها الفقير في فقره؟ أي عدالة اجتماعية هاته التي تنتفخ فيها أوداج رب العمل وتترهل بطنه حتى يكاد يجرها، في حين يضمر جسد العامل الكادح، حتى تظهر عظامه. ومادام الزمن موجود ففاتح ماي موجود، والعامل موجود، يخرج إلى الشارع ليحتفل بعيده وينادي بصوت مبحوح واهن مفقود: “يا عمال العالم اتحدوا”. يحمل لافتاته التي خط فيها مطالبه، ليشعر ولأول مرة ربما أنه سيد نفسه ولا أحد يتحكم فيه، وبأنه قوة لا يمكن الاستغناء عنها في المجتمع، لكن وحينما تغيب شمس العيد يكتشف كم كان غبيا وساذجا، فالحياة لا تؤمن إلا بالمادة أما الأحلام والطوباوية فهي قصور المجانين والفاشلين. في الليل يعرف أنه لا يساوي في قيمته حتى كلب سيده الذي لا يعاني الجوع ولا الأمراض، وله بيته وسريره الخاص ينام فيه معززا مكرما. أما هو فيشعر أنه مجرد حقير يتسول من أجل أن يبقى على قيد الحياة. تنكسر أحلامه وتضيع بوصلاته، فيتوسد العبث ويتدثر بلافتاته التي كتب عليها مطالبه وينام مثل جندي مهزوم تخنقه كوابيسه طول الليل.
أي حياة هاته؟
هل هي خدعة إذن هذا الفاتح؟ وهل هذا العيد هو لحظة زمنية تم منحها له كي يخرج فيها ما يسكنه من هموم وأحزان؟ فهو قد ينفجر في وجه السيد الذي لا يحب أن يكون عبدا له، وهذه فرصته كي يصرخ ويصرف ما يحمل في داخله ثم يعود بعد ذلك وهو نشط كي يدير طاحونة السيد التي ستطحنه في يوم ما لا محالة؟ في داخله تتصارع الأفكار والتأويلات مثلما تتصارع أمواج البحر، وكالنائم في مشيه يستمر في الدوران مثل حمار الطاحونة متوهما أنه قوة لا يمكن الاستغناء عنها. “ما أجهلني وما أغباني” يقول مع نفسه فمنذ وجدت لم أستطع حتى توفير لقمة طعام.. إنه العبث حقا.
يشعر وهو يجوب الشوارع في يومه العمالي أنه يشبه دونكشوت الذي يحارب طواحين الهواء.. فكل فاتح ماي يأتي عليه يجده وهو لا يزال يحارب بسيفه الخشبي وحوشا خرافية لن تشبع بل وقد تأكله في يوم ما. فهل يغير سلاحه أم أنه من الضروري وكي ينجح في معركته أن يعيد قراءة الفلسفة ثم يصعد إلى الحلبة بقفازات من حرير لخنق الجهل والتجهيل.
هو مؤمن أن فاتح ماي لن يتخلف عن موعده مادام هناك زمن ومكان وبشر. لكنه مؤمن أن العملية وما فيها “هي أن الحياة صراع طبقي من أجل الوجود”.