رأي/ كرونيك

الفاعلون الجدد في ساحات الميادين… في الجزائر والسودان والمغرب

عبد الدين حمروش كاتب مغربي

تعرف الجزائر والسودان، منذ شهور، تظاهرات شعبية. وإلى اليوم، استطاع الشعبان إنهاء حكمي كل من بوتفليقة والبشير، في انتظار تحقيق الشطر الثاني من الأجندة الثورية: تنحية رجالات النظام السابق في الجزائر، واستلام المدنيين السلطة من العسكريين في السودان.

وعلى الرغم من بلوغ الثورتين «عنق الزجاجة»، اليوم، إلا أن الثوار يبدون حنكة في تدبير زمن الثورة، مع ما يقتضيه ذلك من مناورة، سواء في العمل الميداني أم في التفاوض السياسي. ولعل ما يثير انتباه الملاحظين ليوميات الثورة، الوضوح السياسي لمختلف أولئك الفاعلين الجدد. إن جولة عبر بعض القنوات الرقمية، من شأنها أن تقدم صورة عن ذلك «الوضوح»، الذي بات يجسده الشاب، في ما يقترحونه من «مخارج» لأزمات بلدانهم السياسية.

بعد «تصحير» الحياة السياسية وتجفيفها في البلدين، لعقود طويلة، يبزغ جيل من السياسيين الشباب، الذين دفعت بهم الأحداث إلى الواجهة. وعلى الرغم من عدم تمكُّن الجزائر، في ثورتها الثانية، من إفراز قيادات جامعة، إلا أن ذلك لا ينطوي على أي افتراض بانعدام مثل هذه القيادات. في مقابل إفلاس رجالات الثورة الجزائرية الأولى، إلى حدّ انعدام شخصية وطنية بديلة لبوتفليقة، تقترح الثورة الثانية قيادات شبابية، من الطلاب والأطباء والمهندسين. إضافة إلى ذلك، ظهر الشباب الجزائري الثائر، في جزء مهم منه، على هامش رفض العهدة الخامسة للرئيس المُقعد. الاستهانة بذكاء الجزائريين، لدورات انتخابية متوالية، وحّدت مختلف ألوان الطيف الشعبي ضد النظام الحاكم، المُتحلِّق حول «جبهة التحرير الوطني».

بدو أن في انتظار السودانيين والجزائريين «فسحة» من الأمل السياسي بإمكانها أن تَعبُر بالموجة الثانية من الثورات العربية إلى «البرّ» المنشود وفي حال ما تأكد ذلك فإن من شأن الثروات الطبيعية والبشرية التي يزخر بها السودان والجزائر، أن تُيسِّر الانتقال الديمقراطي

أما في السودان، وعلى الرغم من هيمنة نظام البشير الطويلة، فإن المجتمع السياسي لم يفتقد لتجربة حزبية ذات تقاليد. ولذلك، يسهل علينا إدراك طبيعة الفاعلين في الثورة، بالنظر إلى قيادة «قوى الحرية والتغيير» اعتصامات إسقاط الرئيس السابق من جهة، وشروعه في التفاوض مع المجلس العسكري من جهة أخرى. وإذ تتربص بالثورتين تهديدات داخلية وإقليمية، يدرك السودانيون والجزائريون طبيعة التحديات والمناورات الجارية.

يبدو أن في انتظار السودانيين والجزائريين «فسحة» من الأمل السياسي، بإمكانها أن تَعبُر بالموجة الثانية من الثورات العربية إلى «البرّ» المنشود. وفي حال ما تأكد ذلك، فإن من شأن الثروات الطبيعية والبشرية، التي يزخر بها السودان والجزائر، أن تُيسِّر الانتقال الديمقراطي، ومن ثمّ تحقق التنمية والرخاء الاقتصاديين. إن فارق الثروة الطبيعية، بشكل خاص، هو الذي يفصل البلدين عن بلد آخر، مثل تونس الديمقراطية التي أخذت تُلقي بها «الحاجة» إلى دول الاستبداد في الخليج، والتحالف معها لخدمة بعض أجنداتها.

لقد تناسلت حركة 20 فبراير بعد ترياق دستور 2011  في صور متعددة من الاحتجاجات القطاعية والجغرافية والثقافية وعلى الرغم من أن كل تلك الاحتجاجات ظلت تحيل إلى «الحركة»/ الأمّ  إلا أن الجانب الفئوي غدا أحد مياسمها البارزة. وفي سياق ذلك، بتنا نشهد إلحاحاً مُتصاعداً من قبَل المتظاهرين الجددعلى تحقيق مطالبهم الفئوية، بغض النظر عن التكلفة المُفترض أداؤها من قبل المجتمع والدولة

في ما يخص المغرب، الذي كان يبدو مُتقدِّماً سياسياً، بات وضعه يتقهقر مع مرور الزمن. اليوم، الأحزاب السياسية مأزومة، ما أتاح الفرصة لبروز خطاب الشك والتوجس. ومع قرب استحقاقات 2021 الانتخابية، يظهر أن منسوب الثقة في الاستحقاقات الانتخابية، لدى المواطنين، يكاد يساوي العدم. أما بالنسبة للدولة، فإنها أكثر انهماكاً، بفعل تصاعد وتيرة التحديات الاجتماعية، التي تطرحها الاحتجاجات المتواصلة مجالياً (قطاعياً وجغرافياً وثقافياً). وفي مقابل خفوت دور الفاعل السياسي، ترتفع الأصوات المطلبية ذات الطبيعة الفئوية. بغياب المطالب السياسية والاجتماعية، ذات البعد الوطني الديمقراطي المُوحِّد، تظهر نوعية الشباب الفاعل في مغرب ما بعد حركة 20 فبراير/شباط: إضرابات «مُتعاقدي» التعليم وطلبة كلية الطبّ بصفتها مثالاً.

لقد تناسلت حركة 20 فبراير، بعد ترياق دستور 2011، في صور متعددة من الاحتجاجات القطاعية والجغرافية والثقافية. وعلى الرغم من أن كل تلك الاحتجاجات ظلت تحيل إلى «الحركة»/ الأمّ، إلا أن الجانب الفئوي غدا أحد مياسمها البارزة. وفي سياق ذلك، بتنا نشهد إلحاحاً مُتصاعداً من قبَل المتظاهرين الجدد، على تحقيق مطالبهم الفئوية، بغض النظر عن التكلفة المُفترض أداؤها من قبل المجتمع والدولة (نتيجة رفض الأساتذة المتعاقدين العودة إلى العمل إلا بعد تحقيق مطالبهم، وامتناع الطلبة الأطباء اجتياز الاختبارات والالتحاق بالمستشفيات). لقد صارت مثل هذه الاحتجاجات تستنزف «تركيز» الدولة، وبخاصة في ظل ضمور مؤسسات الوساطة، من أحزاب ونقابات وجمعيات مدنية.

ولولا ما ظل يستدعيه النقاش حول الملكية البرلمانية، أو ما تستثيره بعض قضايا حقوق الإنسان، لغرق المجتمع في أتون المطالب الفئوية. وإن كنا نتفق على عدالة مثل تلك المطالب الاجتماعية، إلا أن غياب البعد السياسي اللاّحم لها، وطنياً، ظل يُفقدها زخمها وحيويتها. ما من شك في أن المغرب بحاجة إلى إصلاحات دستورية جديدة، من شأنها إحداث دينامية جديدة، على أكثر من صعيد سياسي واجتماعي واقتصادي. فبعد تباشير «العهد الجديد»، وما رافقه من أجوبة حقوقية وتنموية محدودة (مخرجات الإنصاف والمصالحة، مبادرات التنمية البشرية، ميثاق التربية والتكوين، إلخ…)، باتت البلاد ترزح في ظل ركود بيِّن، إن على مستوى الخطاب أم على مستوى الممارسة.

ترتسم بوادر للانتقال الديمقراطي، في كل من الجزائر والسودان، على الرغم من قوة الدولة العميقة، وتَصدِّيها لكل المطالب المدنية في التغيير. وإن تشهد الدولتان «مخاضاً» عسيراً، إلا أن ذلك لا يحول، حتى اليوم، دون إمكانية أن يسفر عن «شيء» للجزائريين والسودانيين. أما في المغرب، فلم يعد المواطنون يتظاهرون، في الغالب، إلا تحت شعارات اجتماعية قطاعية، الأمر الذي غدا ينهك «عقل» الدولة وأجهزتها. ليس هناك أكثر من تلك الشعارات، في تأجيل تام لكل القضايا الوطنية، ذات العلاقة بالانتقال الديمقراطي. أعتقد أن الصورة الاستثنائية، التي كانت تقدمها الدولة للرأي العام الدولي، بات يعتري «شاشتها» الكثير من «الخدوش». فبعد النجاح النسبي، الذي تحقق عبر صيغة دستور 2011، عاد المغرب إلى وضع الجمود، إن لم نقل الارتداد عن كل شعارات التغيير المُعلنة. وبعد أن ظل يفصح عن استثنائه، يبدو أن المغرب، أيضاً، آخذ في التوجس من كل «انتقال» للجار الشرقي، ما قد يزري بوضع التوازن «الديمقراطي» بين البلدين.

فهل نتوقع تسابقاً ديمقراطياً بين البلدين، بالنظر إلى ما ستسفر عنه تظاهرات الجزائريين؟ وهل سيكون نجاح الجزائر والسودان بمثابة «قطع» مع مختلف صيغ الجواب، التي اقتُرحت للـ»خروج» من أتون ما يسمّى الربيع العربي: مصر السيسي وسوريا الأسد؟

المصدر: القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى