هيمنة المجموعة على الحريات الفردية
منذ وعيت على هذه الدنيا رأيت أن الحرية هي أقصى ما يمكن أن يبلغه الوجود الإنساني: الحرية في أن تكون نفسك، دون أن تقدم تنازلات، أو تستجيب لضغوط، لكن الأمر ليس بهذه السهولة فالقليل القليل من الحرية يمكن أن يدفعك الثمن غاليا مدى الحياة. وهو عكس الادعاء بأننا نعيش في زمن الحريات، وأن الحرية متاحة ومكفولة للجميع.
لماذا نحتاج الحرية، أو لنقل لماذا ننزع إليها باستمرار؟
يبدأ الطفل منذ نعومة أظافره في تحدي الخطوط الحمراء الموضوعة له، في رد فعل سلوكي غريزي يهدف من خلاله إلى إثبات الذات ومنحها المساحة الطبيعية التي يحتاجها نموها. ومع هذا الفضول الفطري لكل ما هو ممنوع والرغبة في اكتشاف المجهول تزداد حاجة الإنسان إلى التحرر، الذي يعني أيضا، الاختلاف، والانطلاق نحو عوالم أخرى ودخول تجارب مختلفة.
لا شك لدي في أن الإنسان يولد حرا، كما قال بذلك أغلب الفلاسفة والشعراء والمفكرين. الحرية بهذا المعنى ليست مكسبا وإنما صفة ثابتة في الكائن البشري، وهي لا تحتاج معركة لانتزاعها، بقدر ما تحتاج مساحة لممارستها. غير أن ما يحدث في الغالب هو أن المجموعة التي تبدأ من الأب والأم وتتوسع إلى المجتمع المصغر ثم المجتمع العالمي ترغب في ترسيخ حقوق الجماعة على حساب حقوق الفرد فتنشأ المعركة.
ربما سيأتي وقت تتحد فيه قوى الفرد وحركات التحرر، النسوية والذكورية على حد السواء لمواجهة هيمنة المجتمع واستعباده
في بعض المجتمعات الحديثة يختفي الفرد تماما داخل المجموعة ليصبح جزءا من كل، على ضوئه تتحدد هويته وتكتمل، وتصبح حقوقه متصلة ومتفاعلة مع حقوق الآخرين، بحيث يختفي حقه داخل الحق الجماعي، ويتحول إلى هامش ضمن منظومة اجتماعية صلبة لا فكاك منها.
القليلون الذين يحاولون كسر هذا النمط والخروج عن القطيع يتعرضون للنبذ والمحاسبة الصارمة التي تنتهي غالبا باستسلامهم وخضوعهم. فكرة المجموعة كانت ولا تزال موجودة بقوة أيضا في القبائل والعشائر والتكتلات التي تقتل الفرد على حساب الكل المقدس وبالتالي تقتل الحريات.
والحقيقة أن الحرية تكمن في الفردانية، وكلما نزع الإنسان إلى ممارسة فردانيته كلما زادت حاجته إلى مساحة الحرية التي تسمح له بذلك دون محاسبة ودون إخضاع من الآخر. أصطدم في حياتي اليومية ببعض المواقف الصغيرة التي تضعني غالبا في حيرة من أمري. هل نحن حقا في عصر الحريات؟
لست من النوع الذي يحب أن يكسر مع السائد ويخرج عن المألوف لمجرد الانتفاض، وربما يعود ذلك لحاجتي الملحة إلى الانتماء داخل مجموعة مصغرة والالتزام بقوانينها، ولكن لدي، لنقل شيء من الحس النقدي البسيط تجاه سلطة المجموعة التي تحولت إلى نوع من الاستعمار القهري للفرد.
في المدارس مثلا، تشعر في هذا الزمن، أن مهمة المدرسة الأساسية تكمن في “إنتاج” رجل المستقبل ليس بوصفه فردا، وإنما بوصفه جزءا غير مكتمل من مجموعة، أي بخصائص ومواصفات لا تكتمل إلا باجتماع الأطراف وبوجوده ضمن تركيبة جماعية. كالصورة الممزقة على أجزاء، لا تكتمل إلا بالتئام أجزائها.
الإنسان يولد حرا، كما قال بذلك أغلب الفلاسفة والشعراء والمفكرين. الحرية بهذا المعنى ليست مكسبا وإنما صفة ثابتة في الكائن البشري، وهي لا تحتاج معركة لانتزاعها
يبدو لي الأمر أحيانا وكأن المدارس تحولت إلى ماكينات إنتاج مبرمجة بدقة وصرامة من أجل إيجاد نوع بشري معين يستجيب لمواصفات ومتطلبات المستقبل، وهو نموذج متشابه إلى حد كبير، كما أن حرية الانعتاق منه تكاد تكون منعدمة.
قادني إلى هذا التفكير وقوفي على “هيمنة” النظام التعليمي الحديث في العالم الغربي وصرامة مسطرته التي تقيس مواطن المستقبل بالمليمتر مستثنية كل من لا يستجيب لأقل الشروط والامتيازات.
أتساءل والحال هذه عن مستقبل الحريات ومدى قدرتها على كسر هذا النموذج الدقيق المبني بصلابة وتأن. هل يختفي الإنسان بوصفه فردا، في مقابل هيمنة وطغيان المجتمع عليه؟ ربما سيأتي وقت تتحد فيه قوى الفرد وحركات التحرر، النسوية والذكورية على حد السواء لمواجهة هيمنة المجتمع واستعباده. وفي اعتقادي أن هذا الوقت لن يتأخر كثيرا بعد تغول المجموعة وابتلاعها للحريات الفردية، حتى وصل الأمر إلى انتشار نموذج موحد للذوق، وأسلوب موحد للتفكير، ساعدت العولمة والتكنولوجيا الحديثة، كما نعرف على انتشاره بأسرع مما كان متوقعا.
المصدر: نقلا عن صحيفة العرب