تفاجأ المتقاعدون وعموم المواطنين بقرار استعمال فيتو الفصل 77 من الدستور لإسقاط مقترح إعفاء معاشات المتقاعدين من الضريبة، الذي تقدم به مستشارو الكونفدرالية الديمقراطية للشغل بالغرفة الثانية للبرلمان.
المقترح الكونفدرالي كان يرمي إلى تخفيف الأعباء الضريبة عن المتقاعدين،، خصوصا وأن معاشاتهم لا تعرف الزيادات ــ رغم هزالتها في عهد حكومتي حزب العدالة والتنمية ــ كما هو الأمر بالنسبة للأجور، من جهة، ومن أخرى فالمعاشات ليست أجورا ورواتب، بل سبق وخضعت للضريبة على الدخل طيلة سنوات العمل.
وقرار بنشعبون ــ وزير الاقتصاد ــ لم تمله الظروف المالية الصعبة لخزينة الدولة، بقدر ما هو ترجمة عملية للإستراتيجية الحكومية التي وضعها بنكيران ويسير على نهجها خلفه العثماني .
وتهدف هذه الإستراتيجية إلى العفو التام عن ناهبي المال العام ومهربي الثروات في مقابل مواصلة الضغط الجبائي على الموظفين، الذين يتم اقتطاع الضريبة على الدخل من المنبع.
الأمر الذي جعلها ــ أي الضريبة ــ تمثل ثاني مصدر للإيرادات العامة؛ ومن ثم فإن 80 في المائة من عائدات الضريبة على الدخل تأتي من الأجراء في القطاع الخاص والموظفين في القطاع العمومي .
فوزير الاقتصاد الذي برر رفضه إعفاء معاشات المتقاعدين من الضريبة على الدخل بكونه ــ الإعفاء ــ يؤدي إلى “تخفيض الموارد العمومية”؛ ومن يسمع خطابه يظنه أحرص الوزراء على المال العام ، لكن الوقائع تكذّب مزاعمه، إذ هو الذي اقتطع من الميزانية العامة لسنة 2020 مبلغ 4820 مليار سنتيم لاقتناء سيارات فارهة للوزراء وتجديد مكاتبهم، فضلا عن تخصيص مليار و 370 مليون سنتيم من خزينة الدولة لإعادة إحياء صندوق تقاعد البرلمانيين المفلس.
فكيف للوزير بنشعبون أن يقنع الشعب المغربي بهذا التناقض في القرارات؟ لا شك أن الحرص على المالية العمومية لن يسمح للوزير تخصيص المبلغ إياه لتجديد السيارات والمكاتب، كما لن يسمح له بتوسيع دائرة الإعفاء من الضريبة التي شملت تعويضات الوزراء والبرلمانيين وتقاعدهم .
إن الوزير نفسه أقر، خلال المناظرة الوطنية حول الجبايات التي انعقدت يومي الجمعة والسبت 3و4 ماي 2019 بمدينة الصخيرات بأن 50% من إيرادات الضريبة على القيمة المضافة تأتي من 150 شركة فقط.
إذن أين هو الحسم والحزم في استخلاص حقوق الدولة وأموال خزينتها؟ سيادته لم يكتف فقط بالتغاضي عن حقوق الدولة، بل يحرص على تمتيع الشركات الكبرى بالتحفيزات الضريبية التي تكلف الدولة سنويا ثلاثين مليار درهم (ما يقارب ثلاثة مليارات دولار)، وهو ما يمثل 2.5% من الناتج الداخلي الخام.
طبعا لم يكتف بنشعبون بهذه الإعفاءات الضريبية، بل تجاوزها إلى مواصلة الدعم المالي لأرباب النقل العمومي قصد تجديد العربات والشاحنات.
والكارثة المالية الكبرى هي أن الحكومة لا تكتفي بإعفاء كبار الفلاحين من الضريبة ، وإنما توفر لهم الدعم المالي الكافي لتغطية مصاريف تجهيز الأراضي بتقنيات الري العصري واقتناء الآليات والمعدات الفلاحية فضلا عن تخصيص منح مالية (4 آلاف درهم) لكل عجل مولود لكبار الفلاحين فقط .
إن بنشعبون والعثماني وكبيرهما بنكيران الذي علمهما السحر وأسس لهما قانون “عفا الله عما سلف”، لم يكن لهم الشجاعة ولا العزيمة على مواجهة أخطبوط الفساد وناهبي الثروة ومهربيها والشركات والمقاولات المتهربة من أداء الضرائب .
فالتقرير الأخير الذي قدمه مكتب “أوكسفام” بالمغرب يفيد بأن 82 % من العائدات الضريبية على الشركات تستخلص فقط من 2% من الشركات متعددة الجنسيات ، بينما 98% من هذه الشركات لا تدفع مستحقات الدولة من الضرائب.
الأمر الذي يرفع تكلفة الخسائر الضريبية التي يتكبدها المغرب كل سنة إلى مليارين و450 مليون دولار . هذه الملايير الضائعة لا تخسرها خزينة الدولة وحدها بل يتحمل نتائج ضياعها وتضييعها الشعب المغربي في عمومه وخاصة فئاته الفقيرة ( يعيش 4 ملايين و200 ألف شخص في الفقر ، وحوالي نصف السكان النشطين(46 %) لا يتمتعون بالتغطية الصحية، وفي المناطق القروية فقط 64%من الساكنة تستفيد بشبكة الربط بالمياه الصالحة للشرب، كما لا يتوفر المغرب إلا على 6,2 طبيب لكل 000 10 شخص مقابل 12 طبيبا في الجزائر وتونس ).
أما ضحايا التهرب والإعفاءات الضريبية من الشباب فتعكسها نسبة البطالة التي بلغت في صفوف هذه الفئة (ما بين 15 و24 سنة) بالوسط الحضري 42،8% حسب تقرير أوكسفام. إن السياسة الضريبية التي تنهجها حكومة البيجيدي منذ 2011 مع قانون “عفا الله عما سلف” وكذا والإعفاءات والتحفيزات الضريبية السخية، تجعل المغرب من أكثر الدول اتساعا من ناحية الفوارق الاجتماعية ومن بين الدول المفتقرة للعدالة الاجتماعية على المستوى الدولي.
الأكيد أن حكومة البيجيدي تستثمر في الفقر والتهميش، لهذا تتخذ القرارات التي تضرب القدرة الشرائية للمواطنين وتحرمهم من شروط العيش الكريم وفرص الترقي الاجتماعي (إلغاء صندوق المقاصة الذي أدى إلى ارتفاع الأسعار ، إلغاء التوظيف والترقيات بالشواهد والدبلومات ، التوظيف بالتعاقد الذي يفقد الموظفين كل حقوقهم ..). ولجوء حكومة البيجيدي إلى استعمال الفصل 77 ضد مقترح إعفاء معاشات المتقاعدين من الضريبة ليس إلا تكريسا وتطبيقا لسياسة التفقير والعداء للفئات الفقيرة والمتوسطة، وإلا ما معنى إعفاء الشركات الكبرى ومعاشات الوزراء والبرلمانيين من الضرائب وإثقال كاهل المتقاعدين بها.
إن المدخل الأساس حسب أسماء بوسلامتي، مسؤولة برنامج الحوكمة في مكتب أوكسفام المغرب هو”جباية الضرائب العادلة ” لأنها “وسيلة فعالة للحفاظ على التماسك الاجتماعي .. وتعبئة الموارد لتمويل البنية التحتية والخدمات التي تعود بالنفع على المجتمع بأكمله” .