سيد قطب: تأملات في مشروع ملغوم .. الوجه المطمئن مقابل الوجه الآخر (الحلقة2)
سيد قطب شخصية متعددة الأبعاد، لا يحق للمختلفين معه إدانته في المطلق، وإلقاء كل ما كتبه في سلة المهملات؛ فالرجل مرّ بمراحل، وكل مرحلة طبعته بطابعها، ومن الظلم التنكّر لجميع مواقفه ومؤلفاته بحجة الأخطاء التي وقع فيها خلال المرحلة الأخيرة من حياته؛ إذ تقتضي الموضوعية أن يتم التعامل مع إنتاجه الفكري بقدر عالٍ من المسؤولية؛ لأن المطلوب هو الوقوف عند المسائل التي جعلت منه شخصية مثيرة للجدل وليس الهدف من هذه السلسلة من المقالات إعدامه مرة أخرى وحرق كتبه مثلما فعل سابقون مع الفيلسوف الأندلسي ابن رشد، مع الفوارق العديدة التي ميزت تجربة الرجلين وجعلت مساريهما متناقضين كلياً.
بدأ قطب مسيرته الابداعية أديباً رقيقاً، يحسن اختيار الكلمات، ويختص في الكشف عن أسرار اللغة وامتزاجها بالقرآن والأشواق الروحية عندما ألف “التصوير الفني في القرآن” ثم “مشاهد القيامة في القرآن”. في تلك المرحلة كان اهتمامه منصباً على فنيات النصوص وما تكتنزه من معانٍ ومشاهد آسرة لقرائها، سواء أكانوا مؤمنين بمصدرها الإلهي أم لا. وكانت تلك مقدمات لميوله الدينية وبداية اشتغاله بالفكر الإسلامي. أثرت تلك المرحلة على أسلوب الكتابة عنده، وعلى كيفية فهمه للقرآن الكريم من حيث المتن والمعنى. لقد اكتسبت الصورة الفنية أهمية كبرى لديه، مما جعله يعمل على إيصال أفكاره إلى قرائه بقوة وتأثير مستعملاً جمالية الإيقاع وقوة البيان من أجل تمرير مواقفه وآرائه إلى درجة الإيحاء الضمني بأنّ القرآن الكريم ينطق بذاته بدل أن ينطق من خلال لسان من يتصدى لتفسيره. وهو ما أوقع الكثيرين في حالات لبس حين اختلط عليهم الأمر ولم يميزوا بين النص وتأويله.
لا يعني أن قطب كان مخاتلاً أو مناوراً لكنه اكتسب القدرة على الإقناع بما كان يعتقد بكونه الخطاب الفعلي للوحي الإلهي
في المرحلة الموالية بدت على الرجل تحوّلات ملموسة ذات طابع ثوري وتقدمي رغم قربه من حركة الإخوان المسلمين المحافظة، وربط مصيره بمصيرهم. تفاعل وطنياً مع مظاهر التخلف والفقر والحيف الإقطاعي في ظل الهيمنة البريطانية على مصر. كتب في هذا السياق مؤلفاته التالية “العدالة الاجتماعية في الإسلام”، الذي صدر خلال عام 1949، وأبرز ميوله في تلك اللحظة للأفكار الاشتراكية دون أن يعلن عن ذلك صراحة كما فعل غيره في نفس الفترة مثل؛ خالد محمد خالد، الذي أغضب الإخوان المسلمين وعموم الأوساط الدينية المحافظة الأزهرية وغيرها، وذلك عندما أصدر كتابه الشهير والجريء “من هنا نبدأ”، فردّ عليه الشيخ محمد الغزالي بكتاب مضاد يحمل عنوان “من هنا نعلم”، اتهمه فيه بكونه جاهلاً بالإسلام رغم كونه شيخاً من خريجي الأزهر.
ازدادت غبطة الإخوان عندما وجدوا كاتباً قوياً مثل سيد قطب ينحاز إلى معسكرهم. قال الشيخ يوسف القرضاوي في هذا الشأن “استقبلت الأوساط الإسلامية كتاب )العدالة ( بالحفاوة والترحيب… واستبشروا بأنّ التيار الإسلامي قد كسب كاتباً له وزنه الأدبي وقلمه البليغ، فهو يعتبر إضافة لها قيمتها إلى هذا التيار تعوض الخسارة التي لحقت به بانضمام الشيخ خالد محمد خالد إلى التيار العلماني، فكأنّ عدالة الأقدار عوضت عن خالد بسيد” .
اتضح هذا التوجه عند سيد قطب في كتابه “معركة الإسلام والرأسمالية” الذي رأى النور في العام 1951 حاول فيه إبراز التعارض بين رؤية الإسلام من جهة وفلسفة الرأسمالية فكرياً واجتماعياً واقتصادياً من جهة أخرى
صدر المؤلف في مرحلة حاول خلالها البعض من كتاب وأنظمة أن تجعل من الإسلام منظومة فكرية في خدمة الرأسمالية ومواجهة الشيوعية والمعسكر الاشتراكي بحجة عداء هذا الأخير للدين وحرية التدين.
لم يكن الإخوان مشغولين بمقاومة الظلم الاجتماعي في كتاباتهم واهتماماتهم واستراتيجية عملهم. ولعل أول من بدأ يفكر في نقد الإقطاع والجشع الرأسمالي هو الشيخ محمد الغزالي الذي كتب سلسلة من المقالات ضمن رده على خالد محمد خالد. حتى بعد صدور الكتب الثلاثة لقطب حول المسألة الاجتماعية والسلام العالمي، لم يستمر هذا التوجه داخل أوساط الإسلاميين ولم يترسخ في فكرهم وفي خططهم السياسية.
https://www.youtube.com/watch?v=2DNyVDlJ4UE
تورط الإخوان في الصراع الذي احتد بين “الشرق والغرب”، عندما اعتقدوا بأنّ الولايات المتحدة الأمريكية والمعسكر الرأسمالي هو أقرب للعالم الإسلامي من الاتحاد السوفييتي والمعسكر الاشتراكي سابقاً. جاء ذلك بوضوح على لسان المرشد عمر التلمساني، وتمت الإشارة إليه في عديد النصوص والمواقف عندما تم النظر إلى السياسات الدولية من زاوية الإيمان والكفر. وقد كان الدين يوظف في تلك المرحلة من قبل جهات متعددة ضمن ما سمّي بـ”الحرب الباردة” التي دارت رحاها لأعوام طويلة بين المعسكرين. وترتب عن صراعهم مع عبد الناصر احتضان الإخوان من السعودية وما أنجر عن ذلك من آثار وتحولات في داخلهم. ثم جاءت حرب أفغانستان لتدفع بالحركات الإسلامية بما في ذلك الإخوان نحو الانخراط الفعلي في هذه الحرب السياسية والأيديولوجية وتقاطع المصالح بين الإخوان والإدارة الأمريكية، والتي ستترتب عنها متغيرات خطيرة أثرت بشكل غير مسبوق على ساحة الإسلاميين، وغيرت موازين القوى بين أجنحتها المختلفة.
ما يلفت النظر في هذا السياق شهادة الإسلامي السعودي عبد الله العقيل الذي ذكر أنّ سيد قطب “بعث لإخوانه في مصر والعالم العربي أنّه لا يعتمد سوى ستة مؤلفات له وهي: هذا الدين، المستقبل لهذا الدين، الإسلام ومشكلات الحضارة، خصائص التصور الإسلامي ومقوماته، في ظلال القرآن، ومعالم في الطريق” . إن صحت هذه الرواية – رغم أنّ قائلها غير معروف عليه الكذب – فالسؤال الذي يطرح في هذا السياق: لماذا شطب سيد قطب كتبه الثورية ذات الطابع الاجتماعي، وأبقى فقط على كتبه العقائدية والحركية؟. هل يعني ذلك أنّه تخلّى عن مقاومة الظلم الاقتصادي، أم لم يعد يعطي لهذه المسألة الأولوية في رؤيته لقضايا التغيير والإصلاح؟
المرحلة الموالية التي انتقل إليها قطب هي المرحلة العقائدية التي هيمنت عليه كلياً، وأصبحت شاغله الرئيسي؛ بل والوحيد إلى أن تم إعدامه. مع هذه المرحلة تبدأ رحلته الصعبة والخطيرة نحو تغيير المفاهيم، وتحديد مصطلحاته الرئيسية التي سيبني عليها وبفضلها منظومته المثيرة للجدل. ولعلّ هذه المرحلة من شأنها أن تساعد كثيراً على رفع اللبس المشار له أعلاه، وتكشف بوضوح عن التحولات العميقة التي جعلته يغير زاوية النظر، ويقدم المسألة العقائدية عن بقية المسائل الاجتماعية وحتى السياسية. العقيدة أولاً، مقولة طالما ردّدها الرجل في رؤيته الجديدة، وبعدها تأتي بقية القضايا الأخرى التي تشغل الشعوب وأطراف التغيير الاجتماعي من مسائل اقتصادية واجتماعية وسياسية. وهذا الأمر ساهم في تعميق الفراغ داخل الحركة الإسلامية، وأبعدها عن المحاور الحقيقية للصراع، وزاد من حجم المسافة التي تفصل الإسلاميين عن العالم الحديث.
المصدر: حفريات