تعالوا لنرى كيف سيغيرنا كورونا؟
بالتأكيد ما زلنا نعيش أزمة متدحرجة، وليس من الصواب الآن، التعجل للخروج باستخلاصات، ولكن حان الوقت للتفكير.. التفكير المسؤول الجاد. في بداية الأيام والأسابيع التي مرت بنا في الحجر، تولد بعض الخوف على أنفسنا وعلى أحبائنا، ما أخاف الناس لم يكن سرابًا، بل كان شيئًا أكيدًا ملموسًا، الخوف من أن ينهار كل شيء، وعند البعض الآخر، يتسلل خوف من شيء آخر.. بأن لا شيء سينهار. أن نعود إلى ما يعتبره البعض “طبيعي”، تحت انطباع واهم بأن كل شيء قد أصبح خلفنا.
الكل يريد الخروج من أزمة كوفيد-19 ولكن المشكلة أنه لا يوجد اتفاق على كيفية هذا الخروج كل فرد يحلم بالتغيير في عالم جديد سيتبلور بعد أشهر أو سنوات من الأزمة ولكن بالتأكيد لا يوجد توافق على ما يجب أن يكون عليه هذا العالم
حتى الآن لا نرى تغييرًا جوهريًا، وكل ما نراه في الحقيقة هي بعض الأخطار والتحديات الحقيقية;
الخطر الأول هو الحماقة المتأصلة، أو المفتعلة.. مثل صرف الانتباه عن الجوهري، والتلهي بمواضيع جزئية، عامة، كأن نقول: علينا توجيه الاهتمام لشراء الكمامات، حتى نحمي أنفسنا بشكل كامل. بالتأكيد شراء الكمامات بحد ذاته ليس حماقة، ولكن المشكلة الأساسية يجب أن تستدعي تفكيرًا أكثر عمقًا.. علينا أن نكون جديين. عندما تكون المشكلة بنيوية، يجب أن يكون التفكير بنيويًا أيضًا.
خطر التفكير التسطيحي والإنتقائي، بتصوير المشكلة وكأنها ليست سوى قضية مادية ونقود.. في الواقع هناك مشكلة مادية مزمنة، وهذا واضح في تدني موازنات وزارة الصحة، ولكن من الخطأ أن نتجاهل بأن المشكلة في جوهرها هي في أخطاء السياسات الصحية، وتراكم الاختلالات الإدارية. صحيح نحن نواجه مشكلة غير مسبوقة بكل المقاييس، ولكننا ندرك بأن المستشفيات العامة تعاني من عجز في المقدرات البشرية، وفي البنى التحتية، حتى قبل حدوث الوباء.
خطر التلوث بأشكاله؛ معدل من يموتون بسبب تخريب البيئة في العالم كل عام حتى الآن، يعادل سبعة أضعاف من مات من الكورونا. تفشي الأوبئة يردها كثير من العلماء إلى التلوث،
وضحايا التلوث والأوبئة في الغالب من المسنين الذين يُضحى بهم من خلال الاستخدام الجائر لكل مصادر الطبيعة.
خطر الخوف من ترسخ مجتمع الرقابة والتسلط.. وما يتطلبه ذلك من ضرورة أن نبقى حذرين، وإعادة التأكيد على أن ما يُؤخذ من إجراءات بسبب الأزمة، هو مؤقت ولحظي، ونحرص على أن لا تذهب الأمور إلى الأسوأ.
خطر التخوف من خسارتنا لبعض الحقوق الأساسية بشكل سريع، وفي اتجاه غير راجع. نتفهم مبررات الإجراءات التضييقية المؤلمة التي نخضع لها اليوم، ولكن يجب أن تكون مؤقتة؛ مثل حق العمل، وحرية الحركة، ودور مؤسسات المجتمع المدني، والمؤسسة التشريعية -بغض النظر عن كفاءتها- كل هذا يجب أن يكون مؤقتًا ومبررًا، ومحكوم بشروط وقناعات وسقوف زمنية وظرفية واضحة.
الظرف الحالي غير مستقر وغير دائم، ومثل هذه الظروف قد تأخذنا إلى اتجاه أو نقيضه.
هذا الفيروس قد يؤدي إلى انحرافات صغيرة محدودة، ولكن تراكم هذه الانحرافات الصغيرة، قد تقودنا إلى تحولات هائلة في العالم كله، خاصة في أوروبا وشمال أمريكا!!
نستنتج بأن الأشياء من الممكن أن تتغير بسرعة كبيرة نحو الأفضل أو نحو الأسوأ، وهذا بذاته يذكرنا بأنه من المفترض أن نمتلك سلطة تأثير حقيقية على تنظيم مجتماعتنا إذا كنا جديين وموحدين وجاهزين بما يكفي.
إنه وقت طرح الأسئلة المعيارية الجيدة، ليس مثل عدد الكمامات “الضرورية” للمرة القادمة، أو عدد أجهزة التنفس الاصطناعي المناسبة، بل من نوع؛ هل يمكننا أن نطور المنظومة الصحية في البلد، بينما نوغل في خصخصة القطاع الصحي العام، ونبقي حوالي 2 مليون مواطن دون أي مظلة تأمينية، وأكثر من ضعف هذا العدد تحت خط الفقر، بينما نزيد من الهوة في الأجور والرواتب بشكل فاحش ويحصل الوزير والنائب والعين على تقاعد مدى الحياة حتى ولو خدم لفترة قصيرة جدًا؟
إذا كان الجواب ايجابي.. ما الذي يمنعنا من تطبيق ذلك فورًا، حتى نطمئن بأننا نسير في الاتجاه الصحيح؟
على الصعيد السياسي؛ هل سنستطيع الحصول على حكومات كفؤة ونزيهة وحقيقية، ومجالس نيابية منتخبة ديمقراطيًا ومستقلة وتمثيلية؟
وعلى المستوى الاقتصادي، هل الاستمرار بتطبيق سياسات التبعية الاقتصادية، والإستدانة الخارجية والداخلية، والعجز المستدام في الموازنات، والنظام الضريبي الجائر، وإهمال القطاع الزراعي، والتخبط في القطاع الصناعي، وإذلال المجتمع، وإفراغ جيوب المواطنين.. هل هذا يعتبر تنمية اقتصادية حقًا؟ وهل سنستمر في ذلك؟ إذا كان الجواب صحيح.. فنحن من الممكن أن نسير في الطريق الجيد. استتباعًا لنفس هذا المنطق يجب أن نستمر في طرح الأسئلة على المستويات العلمية والأخلاقية والإعلامية والتاريخية والقضائية والعقائدية والدبلوماسية والإنسانية.. قبل أن نرسم توقعاتنا لمجتمع ما بعد كورونا، علينا أن نطرح هذه الأسئلة، ونجيب عليها في ورش مجتمعية تشارك فيها منظمات المجتمع المدني، ونخبه، وقواه الشعبية.
بفضل كورونا أصبحنا ندرك بأننا نستطيع أن نعيش بشكل آخر، وإننا عندما نتخطى أخطار الوباء، بصبرنا وتعاوننا، فعلينا أن نستثمر في إيجابياته، وهنا علينا أولاً أن نكون جسورين ومنطقيين وجديين وحقيقيين!!
ليس مطلوب منا أن نصعد الشجرة لنتكهن بمصير العالم وتحالفاته الجديدة وتغيير موازينه.. بل علينا أولاً التفكير جديًا وبمسؤولية عما نريده في بيتنا الداخلي، وبين أهلنا!!
بداية يجب أن نضع حدا لإسطورة ما سمي بالحقائق الاقتصادية، من نوع (ظروفنا خاصة.. وحساسية موقع البلد الاقليمي.. ونحن لسنا دولة بترولية)، لا يوجد حقيقة اقتصادية؛ هناك حقيقة فيزيائية، بيولوجية، مناخية.. أما غير ذلك فقد رأينا بأنه من الممكن أن تتغير بالقرارات بلمحة عين. ما كان يعتبر مستحيلاً، تم إنجازه في أيام، ويجب أن يفهم النظام بأن الشعب وقواه يمتلكون قوة التغيير وسلطة المشاركة.
لا نملك أوهامًا بأن الشعوب بعد الكورونا مباشرة ستنهي النظام الرأسمالي لا عندنا ولا في العالم.. لا تصدقوا كل من يحاول استبدال حقائق التغيير التاريخية بالرغائبية والأحلام
فيروس صغير لا يكفي.. وحده لن يكون فعالاً لمهاجمة الرأسمالية.. انتبهوا ولا تقللوا من سطوة الغول الرأسمالي متشعب الرؤوس. على نخب اليسار خاصة، أن لا تشيع الأوهام، بأن تبشر بنهاية الرأسمالية دون أن تقول كيف؟ تذكروا بأن الحكم الثيوقراطي لم يكن رأسماليًا، ولكنه كان كارثة بكل أبعاده، والرأسمالية ليست سوى تفصيل ملحق صغير في تاريخ البشرية الممتد، حتى ولو تسببت بكل هذه الشرور، ورأسمالية الدولة سقطت أيضا ولم يدافع عنها أحد.
الكل حاليًا يحاول الكتابة مصورًا عالم الغد الذي يريده أو يتصوره، ولكن الأمر لا يتم بهذه الطريقة.. بالتأكيد عالم الغد سيكون عالمًا آخر، وهذا ببساطة يعتمد علينا، كما أنه لن يتم لوحده. جائحة الكورونا تدفعنا لتغيير أنفسنا أولاً.. هل سنبدأ في ذلك؟ هل يجب أن نستمر بالحديث عن استجلاب الجيل الخامس للاتصالات مثلاً: بينما ورطة الأزمة البيئية تلح علينا بتقنين الاستهلاك؟ ألم نستطع أن نواجه أزمة غير مسبوقة، ونفعل كل شيء وأكثر بمعطيات الجيل الرابع؟ ما حاجتنا للجيل الخامس إذًا؟ هل يفيد التغني بالسماء الصافية، والمياه المترقرقة والشواطئ النظيفة أثناء الحجر؟ ولكن هل يجب أن نبقى محجوزين في بيوتنا مدى الحياة، حتى تبقى السماء صافية؟ كنا سعداء لسماع هبوط أسعار النفط وتراجع كميات استهلاكه، وأثر ذلك الإيجابي على البيئة وجيب المواطن.. ولكن هل نسينا بأن كل ذلك قد كان مفروضًا بسبب الأزمة وخضوعا لظروفها، ولم يتم اختياره بقرارات واعية تنحوا إلى التغيير الإيجابي؟!!
بالتأكيد لدينا كل الحق باستغلال هذه الحالة الاستثنائية لتطوير تفكير استثنائي، دون أن يغيب عن بالنا بأن كل ذلك لا يمكن أن يتحقق إلا على أرضية صراع جتماعي واعٍ. لقد حُرمنا من الحرية في الأسابيع الماضية، ووافقنا بكل الرضا والتفهم بتقييد حرياتنا، من أجل منع مصيبة وشيكة، وحماية حياة الأفراد المقدسة. والسؤال: لماذا لا نقبل ترك بعض عاداتنا الاستهلاكية الرثة؛ مثل تبديل هواتفنا مرة كل ستة أشهر أو عام؟ لماذا لا نوقف التدخين؟ لماذا لا نستغني عن سيارات الدفع الرباعي داخل المدن والتوقف عن شطحات السياحة الخارجية، والترفع التام عن التباهي والاستعراض الاجتماعي؟ كل هذا لا يستوجب انتظار قرارات حكومية، بل قابل للتنفيذ فورًا!
كيف وافقنا على الالتزام بالحرمان القاسي من الحريات واعتبرناه مقبولاً من أجل الحفاظ على حياة البشر، بينما نرى بأن تقنين بعض “الحريات” الثانوية، صعبًا على التطبيق، ويصطدم بجدار ذريعة “الحريات الشخصية”، رغم ضرورة ذلك للحفاظ على المجتمعات والأوطان ومستقبل الكرة الأرضية؟!
من يسعى إلى التغيير يجب أن يكون شجاعًا، ومنطقيًا، وصادقًا.. حتى نرتقي بتفكير الجميع إلى مستوى طموح التغيير، بدلاً من الهبوط الى مناسيب مساومات تقليل الخسائر!! علينا تعديل قانون الانتخاب، وقانون الضريبة، وقانون التقاعد (يجب أن توفر الدولة تقاعدًا عادلاً وكريمًا لكل مواطن مهما كان وضعه الوظيفي).
يجب أن نعيد تعريف النمو سواء كان سياسيًا أو اقتصاديًا بحيث يصبح توفير ظروف مجتمعية كريمة وعادلة قابلة للعيش لنا ولأبنائنا وأحفادنا من بعدنا
ندرك بأن عالم ما بعد كورونا سيطرأ عليه تغيير، ولكن علينا الانتباه؛ قد يكون عالم الغد أسوأ من عالمنا الحالي.. أكثر رقابة وتضييق على الحريات، أقل حقوقًا، أكثر توثيقًا وتنميطًا للفرد والمجتمع. كل هذا لا يمنع من أننا قد فتحنا طاقة كبيرة لإعادة استرجاع إرادتنا واسترجاع الاعتبار لحقنا بالتفكير، وعلينا أن نبدأ بفضح والتخلص من سيطرة بعض الاقتصاديين الدجالين، وأن ندرك بأن العالم الذي نعيش فيه، قد بُني ولم يهبط علينا من السماء، وأن ما يبنى من الممكن أن يتم تفكيكه وإعادة بنائه بصورة أفضل، وفي جميع الأحوال، فإننا ما زلنا نمتلك مشروعية مساءلة الحكومات و محاسبتها.
الحجر مناسبة لاكتشاف هشاشة الحياة، وأيضًا أهميتها و روعتها.
المصدر: بوابة الهدف الإخبارية