أبو الأعلى المودودي: الحاكمية غطاء الانفصال والتمايز
تعدّ الحاكمية قضيةً قديمةً حديثةً، لها تجلياتها المستمرة، واستدعاؤها المتصل على مدار التاريخ الإسلامي، فمنذ موقعة صفين، عام 40ه، رفع الخوارج شعار (لا حكم إلّا لله)، على اعتبار أنّهم يحملون راية الله على الأرض، فأرادوا بذلك تمايزاً لأنفسهم عن باقي الفصائل المتحاربة، فكان ردّ الإمام علي بن أبى طالب ( كلمة حقٍّ أريد بها باطل، إنما الإمرة إمّا لبار أو فاجر)، وليقرّ الإمام أنّ المسألة سياسة بحتة، وأنّ الله لا ينزل من السماء ليحكم في الأرض، لكنّ البشر هم من يحكمون بأهوائهم، وآرائهم، وبرّهم، وفجورهم، وشرائعهم، وقوانينهم، فمفهوم الحاكمية هو مفهوم ديني يعاد إنتاجه باستمرار، بشكل سياسي، تحت إنتاج ظروفٍ تاريخيةٍ محددةٍ، كي يصنع لحامليه التمايز والإيمان والتقوى، في مواجهة الكفر والجاهلية وطواغيت الأرض، ويقوي كفة الأقلية المؤمنة أتباع الله في مواجهة الأكثرية الكافرة أتباع الغواية والشيطان.
شعار “إن الحكم إلا لله” سياسي بحت فالله لا ينزل من السماء ليحكم في الأرض
وفي ضوء ما سبق، يمكن إعادة النظر في مفهوم الحاكمية، عند أبي الأعلى المودودي؛ حيث خرج مفهوم الحاكمية، في شبه جزيرة الهند، في وسطٍ مزدهرٍ بالطائفية، واضطهاد الأقليات، الدينية واللا دينية، وكان لأوضاع الهند؛ السياسية والاجتماعية، أثر واضح في نشأة فكرة الحاكمية، فقد شهد المودودي محنة (تهنيد) المسلمين، التي رعاها الهندوسي (شارمانند)، في سياق حملة التغريب والتنكيل بمسلمي الهند، خاصّة بين عامي 1945 -1950، وهي الفترة التي عرفت حركات المطالبة بالاستقلال عن الاستعمار الإنجليزي، وقد مثلها حزب المؤتمر بقيادة جواهر لال نهرو، وتزعمها روحياً المهاتما غاندي، وقد جمع غالبية الهندوس، وفئات واسعة من المسلمين، تحت مظلة الحزب، وشعار (السيادة للأمة كمصدر للسلطات)” (نقلاً عن محمود مرتضى، الحاكمية عند أبي الأعلى المودودي، الثنائيات المتنافية، عدد مجلة المنهاج، بيروت، 2015).
ومقابل هذا التوجه، برز خطاب ينادي بتقسيم الهند إلى نصفين؛ حيث دعا المودودي إلى القومية الإسلامية مقابل القومية الهندوسية، وهنا تجلّى مفهوم الحاكمية، في محاولة لإضفاء طابع التمايز على الجماعة الإسلامية المقيمة في الهند، فيقول المودودي، في كتابه (المصطلحات الأربعة) “مما يقتضيه توحيد السلطة؛ أن تكون جميع ضروب الأمر راجعة إلى مسيطرٍ قاهرٍ واحدٍ، وألّا ينتقل منه جزء من الحكم إلى غيره، فإنّه إذا لم يكن الخلق إلّا له، ولم يكن له شريك فيه، وإذا كان هو الذي يرزق الناس، ولم تكن لأحد يد في الأمر، وإذا كان هو القائم بتدبير نظام الكون وتسيير شؤونه، ولم يكن له في ذلك شريك، فما يتطلبه العقل؛ ألّا يكون الحكم، والأمر، والتشريع، إلّا بيده كذلك، ولا مبرّر لأن يكون أحد شريكاً له في هذا الأمر أيضاً”.
الحاكم والخليفة من وجهة نظر المودودي ما هو إلا خليفة ونائب عن الله في الأرض
ثمّ يرى المودودي، أنّ الحاكمية تختصّ بالله وحده، دون غيره، حيث ينتقل التشريع فيها من الملك الأرضي إلى الملك السماوي (الإله)، وما الحاكم والخليفة، في وجهة نظر المودودي، إلّا خليفة ونائب عن الله؛ لأنّ الحاكم الحقيقي في الإسلام هو الله وحده، والذين يقومون بتنفيذ القانون الإلهي في الأرض، لا يكون موقفهم إلّا كموقف النائب عن الحاكم الحقيقي، وإذا كانت الحاكمية لله خاصة، فكل من قام بالحكم تحت الدستور الإسلامي يكون الخليفة الحاكم الأعلى، ولا يتولى إلا ما ولّاه إياه المستخلِف؛ أي الحاكم الأعلى، من أملاكه وعبيده، نيابة عنه، فلا مجال، في حظيرة الإسلام ودائرة تنفيذه، إلّا لدولة يقوم فيها المرء بوظيفة خليفة الله”.
ومن ثمّ، فإنّ مفهوم الحاكمية يجسّد بامتياز الطبيعة الثيوقراطية للخليفة، في كون الحاكم في النظرية السياسية الإسلامية، هو ظلّ الله على الأرض، ونائبه، يعطي ما أعطى الله، ويمنع ما منع الله. ثم يبدو ادّعاء البعض مدنية الحكم في الإسلام مجرد ادعاءٍ باطلٍ، تعوزه الدقة، وتبدو نظرية الخلافة، نظرية ثيوقراطية بامتياز يوظّف فيها السياسي الديني باستمرار.
مفهوم الحاكمية يمنح الجماعة المسلمة القوة العاطفية والمقدرة على التجييش في مواجهة الأغلبية “الكافرة”
ومن جانب آخر؛ فإنّ المودودي، في كتابه (المصطلحات الأربعة)، يريد أن ينسب كلّ فعل إلى الله، حتى شؤون الحكم، وذلك بهدف أن تكون الجماعة هي التي تقر بهذا، وهي الجماعة الربانية المتمايزة على بقية البشر، وأنّ تلك الجماعة الربانية هي المسلمة حقاً، والمتميزة والمتعالية على كل أصحاب الأديان، والملل، والمذاهب، الذين صوّروا الإله والرب بصورة مغايرة، عما جاءت به الجماعة الإسلامية، التي أوكلت كلّ أمورها لله، ينظّمها ويتحكّم فيها، ويحقّ لها أن تخرج على المجتمعات الكافرة، باستخدام السلاح والعنف لتحقيق أهدافها الربانية؛ على اعتبارها فصيلاً ربانياً مظلوماً، وعليها أن تواجه هذا الظلم، ثم إنّ سيادة هذا المفهوم لدى معتنقيه، يخلق حالةً من التوتر والعنف بينهم وبين المجتمع ككل.
ما ينطبق على المودودي ينطبق على ما فعله سيد قطب حين أراد أن يعيد الحياة إلى حركة الإخوان في مصر
لقد أراد المودودي، من خلال مفهوم الحاكمية لله، أن يصنع تمايزاً عاطفياً للجماعة الإسلامية والمسلمين البنغال، في مقابل الهنود من هندوس وغيرهم، وقد وضع مفهوم الحاكمية إطاراً حامياً لمجموع المسلمين، وهم قلة في مقابل الغالبية من الهندوس. كما أنّ مفهوم الحاكمية يمنح الجماعة المسلمة القوة العاطفية، والمقدرة على الحشد والتجييش، في مواجهة الأغلبية الساحقة “الهندوس الكفرة”، ولقد أسهم إحساس الأقلية المؤمنة، بأنّها جماعة ربانية متمايزة، في مقابل تلك الأكثرية الوثنية الهندوسية الكافرة، إلى تنامي الرغبة في الانفصال عن الهند، الوطن الأم الحاضن للجميع، والمناداة بتأسيس وطن قومي لهم، وهذا ما تمّ بتأسيس باكستان عام 1947م.
وممّا سبق، نلاحظ مدى خطورة، وأهمية مفهوم الحاكمية، ودوره التاريخي في توظيف جماعة، أو أقلية، لهذا المفهوم لمواجهة المجتمع بكامله، والخروج عليه؛ لأنّ معتقد الحاكمية يملك القوة العاطفية على الجمع، والتجييش لما يسمَّى “الجيل الرباني”، وما ينطبق على المودودي، ينطبق على ما فعله سيد قطب؛ حين أراد أن يعيد الحياة إلى حركة الإخوان المسلمين في مصر، فأعاد إنتاج مفهوم الحاكمية من جديد، في كتابه “معالم في الطريق”.
المصدر: حفريات