حسن يوسفي يسائل: “المسرح والجائحة… الجوهر والمفارقات “
قارب الأستاذ علاقة الجائحة بالمسرح انطلاقا من أسئلة وجودية وفكرية تتعلق بعلاقة الإنسان بالحياة في شموليتها والإنسان في أنساقه الاقتصادية والاجتماعية والفكرية والنفسية. وبما أن الحياة ضرورة فإن شرط الجائحة أضحى يقنعنا بحياة أقل، لأن الوضع فرض فصلا قسريا بين المبدع والمتلقي في ظرف الهشاشة، ما جعل المسرح يتضرر أكثر من باقي الفنون، سيما أنه فن لا يتحقق إلا باللقاء الجمعي في الزمان والمكان، على خلاف الموسيقى والتشكيل والسينما…
وقد رصد الباحث علاقة الجائحة بالمسرح من منظورات متعددة منها علاقة المسرح بالجائحة التي تبرز من خلال استبصار أوجه التشابه والتنافر.
وقد استهل الباحث مداخلته بالإحالة على محاضرة أنطونان أرطو “المسرح والطاعون” من كتابه “المسرح وقرينه”، استعار فيها الخاصية التدميرية للطاعون لإضاءة المسرح من حيث الطبيعة والوظيفة… لأنهما يشتركان في العدوى ليس فقط بالتماس الجسدي المباشر، لكن بالطبيعة الروحية، تلك الطاقة التي تصيب العقل والحس أكثر من إصابته أعضاء الجسد الحيوية. فللمسرح – من زاوية نظر أرطو – (سُمُّه) الذي يستشري في المجتمع باعتباره (آفة منتقمة) و”وباء منقذا” للجسد الاجتماعي، لذا، فالممثل والمصاب بالطاعون يتشابهان في عدوى الإحساس بالألم وإخفاء آثاره ظاهريا، وإشاعة الصور الشعرية التي تجسد انحدار الطاقة الروحية، لإضاءة تناقضات العالم واندحار قيمه السامية.
وقد أثار الفيروس الحيرة والضجر لالتباس توصيفه مخبريا، وحصر سبل انتشاره السريع، وفرض تقيدا بمناعة القطيع أو الحجر الصحي أو هما معا، بمثابة “حرب مضادة” ألزمتنا بالتحصن بالبيوت و”ألا نفعل شيئا كي نحارب”… وفي ذلك تمثل عميق لقيمتي “الشهامة” و”التضحية” بالذات الفردية والجماعية.
وهذا التباعد الاجتماعي عطل بعض أشكال؟؟؟ الطبيعة البشرية، لذا، كان مهددا لوجود المسرح من حيث كونه تجمعا إنسانيا في الزمان والمكان، له طقوسه المقدسة، التي تمارس تأثيرها الساحر على كينونة الفرد، المتعايش في التجربة المسرحية وعلى الجماعة، لأنه فن استثنائي شرطه التفاعل الحي لحما ودما مع الآخر، على مستوى الخشبة بين الممثلين أو بين الخشبة والجمهور.
ولا شك أن الحجر الصحي أجهز على هذا الشرط الوجودي للمسرح، فكان لابد له أن يبتكر آليات لمناعته، انطلاقا من تراكمات تاريخية وتجارب بشرية أكسبته مقاومة لحروب وكوارث طبيعية بل منافسة شرسة لفنون أخرى كالسينما والتلفزيون… لذا، التجأ إلى مبادرات بديلة تنعشه إلى حين رفع الحجر عنه وعن الحياة، بواسطة بدائل مؤقتة، مثل عرض مسرحيات في العالم الافتراضي. وقد مثل الناقد لذلك بنماذج لعروض تفاعلية مقترحة مثل موقع “تياتر ذو غلوب” بلندن، الذي أعاد بث الشكسبيريات العظيمة أو المسرح المسموع كما في تجربة كندية، “المسرح عبر الهاتف”، أو تلك التي أنجزت في مرائب السيارات (المانيا ونيجريا) وعروض فرقة “درامازيغ” من تيزنيت بعرضها “بروميثيوس” من خلال اشتغالها على سلسلة مشاهد مترابطة تم تصويرها في فضاءات مختلفة، بسينوغرافيات متنوعة، وأشار الباحث إلى تجربة الفنانة فريدة البوعزاوي التي عرضت شخصيات من فضاءات الحجر المتنوعة والمغلقة… كل هذه النماذج ساهمت في إحياء ما أسماه “باتريس بافيس” مسرحا “خفيفا”…
إن استحضار الجائحة لم يقتصر _ لدى الباحث _ على الفضاءات الواقعية بل تجاوزه إلى الفضاء المتخيل، على اعتبار أن المسرح بنى أسطورته العظيمة على التراجيديات العظيمة.
هكذا، ظلت الحروب تزود الخيال المسرحي بكثير من النماذج الحية والرموز والقيم والخطابات التي تتجاوز لحظتها التاريخية، ابتداء من مسرح الفرس “اسخلوس” إلى مسرح “إدوارد بوند” وكذا مسرح اللامعقول في مقاربته للحربين الكونيتين الأولى والثانية، اللتين أبادتا كل اتصال وتواصل إنساني مما أدى إلى “الخرتتة” كما رصدها يونيسكو في مسرحية “الخراتيت” وغيرها مثل “الطبيب رغم أنفه” و”المنافق” لموليير وغيرها… للتعبير عن خراب الإنسان حضارة ومعنى.
وبالتالي، فلا شك أن هذه الجائحة ستفتح شهية التخييل الدرامي، سواء كانت تراجيدية أو كوميدية أو تراجيكوميدية… لتشتغل على تجارب الأشخاص العالقين في بلدان المهجر أو من قضى منهم وهو ينتظر العودة، وحكايات لا تنتهي عن مغالق الحجر.
وفي هذا المقام، استحضر الباحث نموذجا من واقع المغرب المنسي، لواحد من سكان قرية نائية معزولة، كان يحمل معه هواتف القبيلة إلى قمة الجبل، بحثا عن التغطية الهاتفية، وانتظارا لرسائل نصية تخبر صاحب الهاتف بإمكانية الذهاب إلى البنك لتسلم المبلغ الذي خصص لدعم المواطنين الذين فقدوا عملهم بسبب الجائحة، من صندوق وطني تضامني أنشئ لهذه الغاية. هذه الشهادة وسواها لاشك أنها ستكون مادة غنية للإبداع لتخصيب المسرح، بنقلها من وجودها العيني الى فضاء التخييل…
في النهاية، خلص الناقد إلى التساؤل عن أفق ما بعد الجائحة، مستدلا بخطاب أرطو الذي ظل يبحث عن نواة لتشييد مسرح إنساني مستقبلي “لا يحب المتعبين” ولا يكف عن إضاءة عالم زئبقي منفلت نحو متاهات الخراب، وهذا المسرح لن يحقق مشروعيته إلا بـ”ثورة سياسية أو طفرة فنية” ثقافية لبناء كينونة جديدة حية وضاءة.
ونظرا لغنى المحاضرة القيمة التي قدمها د. يوسفي، بدت لي ملاحظات على الهامش آثرت إبداءها:
إذا كان أرطو قد ادعى عدوى الطاعون بعلة روحانية ميتافيزيقية فلأنه كان محكوما بنظرية غائية تريد إثبات روحانية المسرح وهو قياس يعتريه بعض الخلل من حيث كون طاعون 1720 أو غيره من الجوائح لا يمكن إطلاقا أن ينتشر بالروحانيات وبطاقة غيبية، بل بالمباشرة الجسدية للإنسان والأشياء.
وأرطو لا ينكر هذا المعطى المخبري والأثر الطبيعي للفيروس، بل إنه يبني على فرضيته “عدوى الروح” ما يؤكد مشروعه المسرحي، مستجليا حالة الممثل والحدث والصورة في نظام عرضي للجسد الحي، إنما يمنح نظريته العمق في رؤيته للمسرح والجائحة هو هذه الأساطير والصور والتخيلات وحالات الرعب والهلوسات التي تعري تناقضات الحياة والهوة الوجودية للكينونة. ومما لاشك فيه أن خطابه المسرحي مشبع بروحانيات الشرق وتعويذات طقوسه الفرجوية… وهذا المنحى العام طبع تجارب العديد من المسرحيين بأساليب جمالية وفلسفية متباينة شكلت موجات لتيار مسرحي واحد مثله كروطوفسكيو بيتر بروكو حتى بريشت الواقعي لم يسلم من تأثير الشرق، سعيا لإنقاذ مسرح غربي صار محافظا على مركزيته الأرسطية وأكثر انغلاقا في علبته الإيطالية.
وبما أن المسرح فعل جمعي فإنه لم يسلم من العدوى سواء بالاتصال الجسدي بين الممثلين (باللمس والشم والذوق) أو بالأشياء والسطوح الموبوءة. وقد أودت الجوائح بكثير من الفاعلين المسرحيين مثلما وقع لفرقة أصيبت بالعدوى أثناء إعداد مسرحية “ذو الوردة” لبطايب مسرح بباريس أو للفرنسي ادمونرو ستون 1918 الذي فتك به الطاعون أثناء إعداد مسرحية “النسر الصغير” على مسرح سارة برنار بباريس… وهو ما أدى إلى تعطل الحياة الفنية مؤقتا.
وتثمينا لما جاء في المحاضرة، فإن الجوائح اقترنت بمسرحيات عدة مثل “اوديب ملكا” لسفوكل و”روميو وجولييت” لشكسبير و”عدو الشعب” لابسن و”لعبة القتل” ليونيسكو و”هكذاالدنيا” ليوسف وهبي عن الكوليرا بمصر الخ، وهي مسرحيات اقتبسها أو أخرجها العديد من المخرجين العرب والمغاربة.
وباستدعاء الجائحة في المغرب، نطرح أكثر من سؤال، لأن هذا الفيروس أتى ليعري كثيرا من الأقنعة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، أهمها قناع الدولة التي لم يكن لها قط مشروع مسرحي في سياساتها الثقافية والفنية، إذ منذ الاستقلال، وهي تدبر هذا الحقل الفني واحتياجات الفنانين بكثير من الانتهازية السياسية في إطار نظام ثقافي أساسه المنح والريع، وتنقيله عبر دهاليز وزارات عدة بميزانيات ضعيفة جدا.
لقد حلت كرونا ببلدنا لتفضح جوائح اختيارات ثقافية عصفت بالمسرح المغربي من آثارها: إجهاز الدولة على فرقة المعمورة ومسرح الهواة وفرجات الحلقة وهدم المسرح البلدي بالبيضاء والقاعات المسرحية-السينمائية وإحراق أرشيفاته وإتلافها، وإذلال الفنانين، وتهجير كفاءات مسرحية إلى بلدان الخليج… فضلا عن إهمال المسرح المدرسي سواء في المقررات والبرامج أو الملتقيات والمهرجانات، ناهيك عن عدم التشريع لمعاهد فنية جهوية تشمل كافة الفنون، مع إيلائها الاعتبار المستحق إعلاميا وتحفيز كل سلاسل الإنتاج بالحكامة المفترضة.
وقد عمل الإعلام الرسمي على تشويه الفعل المسرحي واعتباره مجرد “ترفيه” ، فدعمت وزارة الداخلية أساسا نوعا من الفرجات الفكاهية والهزلية والسكيتشية لضرب مسرح الهواة، وصار الفن في التعليم نشاطا موازيا مناسباتيا أو مجرد فضلة، وتلك كانت إحدى الجوائح التي طبعت المسرح المغربي الذي انتهى الآن إلى وضع “تراجيكوميدي” ملتبس خاصة في علاقته بالجمهور الذي هجر المسارح في جل العروض ولا يحضر منه إلا أصحاب الدعوات المجانية. كما أن غياب الحكامة عن توزيع الدعم المالي للفرق ومراقبته ساهم بشكل ما في التردي.
وهذا لا يمنع من الاعتراف بأن كثيرا من المسرحيين الملسوعين انبروا إلى حمل المسرح على العاتق وإبداع عروض رائعة جابت العالم الغربي والعربي والإفريقي بالعربية والدارجة والأمازيغية ومحققين نجاحات مبهرة. لكن هذه النجاحات تظل في حاجة إلى سياسة ثقافية واضحة وجريئة غير مرهونة بشخصنة وزارية وقرارات إدارية مرتجلة. وتلك مهمة صعبة في طريق شاقة أوجز د. حسن يوسفي التعبير عنها في الحاجة إلى “ثورة سياسية أو طفرة فنية.”
شكرا جزيلا لموقع دابابريس على نشر المقال
فائق المودة و التقدير
مقال غني ومفيد يكشف عن سعة اطلاع رجل المسرح الاستاذ جمال الفيزازي