الذكرى 99 لملحمة “أنوال” التاريخية.. وعبقرية المجاهد محمد بن عبد الكريم الخطابي
تحل علينا الشهر القادم الذكرى 99 لملحمة “أنوال” التاريخية التي ظلت درسا للأمم الضعيفة وعبرة للشعوب المغلوب على أمرها، وبرهنت على أن قوة الإيمان والعزيمة هي أفعل في النفوس من قوة الأساطيل والدبابات والطائرات.
فقد سطر الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي رفقة المجاهدين من أبناء الريف ملاحم تاريخية أصبحت مصدر إلهام لكل الشعوب التواقة للحرية والانعتاق من قيود الاستعمار والعبودية عبر العالم.
وكتب التاريخ بمداد من الفخر والعزة ما حققه ثلة من البسطاء من ساكنة قبائل الريف لا يملكون إلا الإيمان بالله وحده وتشبثهم بحقهم الطبيعي في الحياة، كتبوا انتصارات أبهرت العالم بملاحم تاريخية أبرزها معركة أنوال الخالدة، كانت هزيمة قاسية على قوى الاستكبار والاستعمار العالمي “دونها المؤرخون الإسبان بـ”كارثة أنوال” Desastre de Annual”. (كتاب أسد الريف لمؤلفه محمد عمر بلقاضي).
قلبت معركة أنوال الخالدة كل الموازين، وأدهشت الرأي العام الدولي والرأي العام الإسباني، وساهمت في زعزعة النظام السياسي الإسباني وزلزلته، فسقطت الملكية عقب هزائمها المتوالية بقمم جبال الريف الشامخ.
وقد حظيت حرب الريف باهتمام كبير من كبار الكتاب والصحافيين من مختلف دول العالم، بالنظر إلى الملاحم البطولية التي سجلتها في تاريخ مكافحة الاستعمار، بقيادة الأمير المجاهد محمد بن عبد الكريم الخطابي، وظل في التاريخ، الرجل الذي اتحدت ضده دولتان كبيرتان في مستوى فرنسا وإسبانيا.
فمن هو الأمير المجاهد محمد عبدالكريم الخطابي الذي ظل اسمه عبر التاريخ منقوشا بالذهب، مقرونا بالإعجاب والإجلال؟
وكيف وحد قبائل الريف المتناحرة والمشاكسة وأذاب العصبية القبلية؟
وكيف حارب الجهل والتخلف والفقر والجوع والأوبئة؟
وكيف سطر الملاحم وهزم جنرالات إسبانيا التي منيت في الريف بأكبر خسارة لها في التاريخ خلال القرنين 19و20؟
وكيف اتحدت فرنسا وإسبانيا على قصف الريف بأسلحة الدمار الشامل من غازات سامة وقنابل كيماوية المحرمة دولية لإنهاء كابوس الريف المفزع؟
وكيف اختطفت فرنسا الأمير الخطابي بعدما وعدته بالبقاء في وطنه بعهد مكتوب وشرط مسطور فسجنته غدرا أكثر من 20 عاما؟
وما هي أقوال كبار الصحافيين والكتاب في الأمير الخطابي؟
وُلد الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي سنة 1882م، ببلدة أجدير بقبيلة “آيث ورياغر” المشهورة ببني ورياغل إحدى أكبر القبائل بإقليم الحسيمة التي تتواجد بالريف شمال المغرب، وكان والده شيخاً لقبيلة بني ورياغل سماه “محمدا” تبركًا برسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، ليقرر تربية ابنه تربية صالحة منذ نعومة أظافره، فقام بتعليمه اللغة العربية وتحفيظه القرآن الكريم بنفسه، ثم أرسله إلى جامعة “القرويين” في مدينة “فاس” ليتعلم هناك علوم الفقه والشريعة، وبعد تخرجه من جامعة القرويين التحق بجامعة “سلمنكا” الإسبانية، فدرس الحقوق وحصل على درجة الدكتوراه، فعاد إلى مليلية ليشتغل صحفيا بجريدة “تلغراما ديل ريف”، ثم أستاذا ومترجما بمكتب شؤون الأهالي مع مزاولته لمهنة القضاء التي ارتقى فيها إلى منصب قاضي القضاة سنة 1914، اعتقل سياسيا بعدما اتهمته السلطات الإسبانية بالخيانة العظمى والتخابر مع القنصل الألماني “د، ڤالتر زشلن”، بعد نشره العديد من المقالات في صحيفة “تلغراما ديل ريف” كان يدعوا فيها إسبانيا إلى عدم تجاوز نفوذ حدود مستعمراتها التاريخية سبتة ومليلية، وسُجن 11 شهراً، حاول خلالها الهرب ففشلت محاولته وكُسرت قدمه، قبل أن تبرأه المحكمة من التهم المنسوبة إليه.
لقب بأمير المجاهدين وأسطورة الريف وبطل الريف، وأسد الريف، وبالرائد والمصلح.
قاض شرعي، ومدرس، وصحفي، ومجاهد، وأمير، وقائد ومصلح مربي.. هذه الصفات اجتمعت كلها في شخصية فريدة هي شخصية الأمير الكبير المجاهد محمد بن عبد الكريم الخطابي.
وبعد وفاة والده سنة 1920 إثر تسميمه من طرف زعيم إحدى القبائل من عملاء إسبانيا، أخذ بزمام زعامة قبيلة بني ورياغل وقاد الأمير الريف نحو الانعتاق من الاستعمار، وهو في التاسعة والثلاثين من عمره، فكانت أمامه تحديات كبيرة تنتظره معارك حربية ضارية، وأول هذه المعارك هي محاربة العصبية القبلية والجهل والتخلف والفقر والجوع والأوبئة والأمراض.
فآخى بين القبائل وألقى دروس الوعظ والإرشاد في المساجد، وحث على الفلاحة والزراعة وشيد المحاكم والمدارس وجلب أطباء لعلاج المرضى.
وحد صفوف قبائل الريف: آيت وياغر “بني ورياغل” التي تضم (بلدات آيث يوسف وعلي، آيث حذيفة، آيث بوعياش، إمربضن “تماسينت” تازوراخث، آيث قمرة..) آيت تمسمان، آيت توزين، آيث وريشك، آيث سعيد، تفرسيت، إبقوين، آيث عمارث، أكزناية، سنادة، بني يطفت، صنهاجة، غمارة.. وباقي قبائل الريف وجبالة.
قام بتجميع القبائل المتناحرة، وعمل على زرع الوعي ومبدأ المؤاخاة كما عمد على إزالة خلافات الثأر والانتقام بين القبائل بمحو رموز الثأر التي كانت تنصب أمام المنازل، وحارب داء الكراهية والحقد والبغضاء وحب الانتقام، ونشر الفضيلة والتسامح والبناء الداخلي على أساس الصدق في القول والعمل.
أمر الطلبة بحفظ القرآن الكريم في المساجد، والسهر على تلقينه لأبناء القبيلة، وتدريس علوم الحديث والفقه وفق المذهب المالكي.
ومنع تدخين الكيف، وأنشأ بيت المال لجمع الزكاة، فكان مصلحا قبل أن يكون قائدا، فأشاع العدل والسلم الاجتماعي.
شن حربه الأولى على الفقر والجوع وقام بالحث على النشاط الزراعي والاعتماد على الإنتاج المحلي: “الزراعة تغنيكم عن المواد الغذائية التي تستوردونها منهم-أي من المستعمر-، والشجرة المثمرة تغنيكم عن فاكهتهم وزيتهم، والمحافظة على الغابات تعيد إليكم المطر ليسقي الزرع والشجر، كل من يزرع شجرة ويعتني بها يعتبر مقاتلا شجاعا ووطنيا غيورا، وكل من قطع غابة يعتبر خائنا للوطن وعدوا لشعبه وأولاده”. (مجلة جسور، العدد الأول، 1424 ص:97).
أدرك الأمير أن معركته الأولى ستكون ضد الجهل والتخلف فقام بباء مدارس تعليمية حديثة تدرس علوم الرياضيات وغيرها بأجدير وبقيوة يشرف عليها علماء من قبيلة غمارة، ومعهدا دينيا بمدينة الشاون “شفشاون”.
كما شيد مستشفى بأجدير واستأجر طبيبا من مدينة فاس وطبيبا فرنسيا يدعى “كود” وطبيبة فرنسية من البعثة لعلاج المرضى بعدما كان الطب بقبائل الريف يقتصر على التداوي بالأعشاب والزيت. (أحمد البوعياشي، حرب الريف التحررية ومراحل النضال، ج 2، ص 181، وداهش، محمد بن عبد الكريم الخطابي: صفحات من الجهاد والكفاح المغربي ضد الاستعمار، ص 169).
كما قام بوضع شبكة الهاتف للاتصال بين القيادة المركزية والجبهات المختلفة، وشبكة من الطرق تربط المناطق بأجدير، إضافة إلى إنشاء العديد من المحاكم بأجدير وتارجيست وتمسمان للفصل في القضايا المدنية والجنائية، وذلك لاستتباب الأمن وترسيخ السلم الاجتماعي.
وقد كَتَبَ صحافي أمريكي “بول سكوت مور” في سنة 1925 يصف النظام والقانون في حكومة الريف قائلاً: «لقد كان النظام والقانون يسودان البلاد، وخيّم الأمن على الممتلكات وطرق المواصلات» (إسماعيل، من القبيلة إلى الأمة: ثورة محمد بن عبد الكريم الخطابي، ص 39).
قام بتربية المجاهدين في المساجد بمواعظه وأحاديثه مشيرين إلى ذلك قائلين إنهم «كانوا ينتظرون بفارغ الصبر وقت صلاة الصبح والعصر حيث كان يؤم الناس ويلقي عليهم أحاديثه لكي يستنيروا بها، فكانوا يتقبلونها بكل اهتمام ويتحرقون شوقاً لتنفيذها» (أحمد البوعياشي، حرب الريف التحررية ومراحل النضال، ج 2، ص 49 – 50.)
عمل على جمع أبناء القبائل وأعلن الجهاد في وجه المحتل، انضمت إليه قبائل الريف طوعية وبمحض إرادتها بغية الدفاع عن الحق في الحرية والعيش الكريم، وكان الأمير الخطابي يعتمد أسلوب الهجوم المباغت على نقاط الإسبانيين وتمركزاتهم، أو السطو الليلي عليهم ليأخذ أسلحتهم، وهو ما مكنه من محاربة المستعمر بسلاحه المتقدم نفسه.
وعمل نظام تجنيد فريد، حيث أوجب على كل الذكور من سن 16 إلى 55 أن يتجندوا كل شهر خمسة عشر يومًا، ويعودوا إلى وظائفهم وأهليهم خمسة عشر يومًا، فضمن وجود الجند، وضمن أيضًا حسن سير الحياة العادية واطمئنان الناس على أهليهم وأولادهم.
الأمير الخطابي يؤكد في مراسلاته لمختلف دول العالم ولمختلف المنظمات الإنسانية أن شعب الريف يريد السلم ولكن الحرب فرضت عليه من طرف الغزاة والمستعمر الغاشم.
فقد كتب إلى رئيس الوزراء البريطاني “رامزي مكدونلد” أرسلها مع “ورد بريس” مراسل صحيفة “ديلي ميل” في رسالته الثانية إليه في أبريل 1923، طالبه فيها بالتدخل لدى إسبانيا لكي تسحب جنودها ولحقن الدماء، وإذا أبت فإن السيف بيدنا والنصر بيد الله يؤتيه من يشاء.
معركة أنوال: ملحمة تاريخية قلبت الموازين وأدهشت العالم
ففي 21 يوليوز من سنة 1921، عندما هجمت قوات محمد عبدالكريم الخطابي على القوات الإسبانية من كل اتجاه، ومع انتصاراته المتتالية على جيوش المستعمر، تم تكليف الجنرال الإسباني “مانويل فرنانديز سلفستر”، بقوة 24 ألف جندي إسباني، مجهزين بالأسلحة الحديثة والمدفعية الثقيلة. انطلق سلفستر من مليلية نحو أجدير، ولم يلقَ أي مقاومةٍ تُذكر، فظن الجنرال أن الخطابي غير قادر على مواجهته بهذه القوات الإسبانية الضخمة، لكن المفاجأة كانت في انتظاره ببلدة أنوال.
أدرك الأمير الخطابي أن غرور الجنرال “سيلفستر” سيجعله يعتقد أنه يستطيع السيطرة على مناطق الريف دون مقاومةٍ تُذكر، فاستدرجه إلى المناطق الجبلية الوعرة، فزاده ذلك رغبةً في السيطرة على مزيد من الأرض، فنصب له الأمير الخطابي كمائن في مواضع مكنتهم من حصار الجنود الإسبان الفارّين من ساحة المعركة.
فقد غنم المجاهدون في هذه المعركة مئات المدافع وآلاف البنادق ومقادير لا تُحصى من القذائف، وملايين الخراطيش، وسيارات وشاحنات، وتَمويناً كثيراً وأدوية، وأجهزة للتخييم، وتم أسر المئات من جنود الإسبان وقتل الآلاف.
وصل بعدها المجاهدون إلى حدود مدينة مليلية، التي امتنع الأمير الخطابي من دخولها مراعاة للجانب الإنساني فهو القائد المربي حافظ لكتاب الله خريج لجامعة القرويين للعلوم الشرعية وحاصل على دكتوراه في الحقوق من جامعة “سلمنكا”، فكانت حربه نظيفة ترعى الجانب الأخلاقي والإنساني، فرفض دخول مليلية خوفا من أعمال الانتقام من المدنيين والنساء وعدم السيطرة على مشاعر الغضب لدى الكثير من الملتحقين الجدد في صفوف المجاهدين، وهو الذي يدرك جيدا تكوين ساكنة قبائل البدو المشاكسة، فقرر الانكفاء على الداخل وتنظيم جيشه بعد كل الغنائم.
وأجرى الصحافي الإسباني “لويس دي اوتيسالا” حوارا مع الأمير الخطابي وشقيقه في فاتح غشت 1921 نشر بعد أسبوع بصحيفة “ليبرتاد” الإسبانية، أن ما أثار انتباهه هو الرواية التي قدمها شقيق محمد بن عبد الكريم الخطابي عن وصول جيش القبائل الريفية إلى حدود مدينة مليلية قائلا “كنا نعلم أن مليلية بدون دفاع…، نحن لم نرغب في تجاوز خط الكيرت وإرساء الحدود هناك، ولكن تخوفنا من اقتحام القبائل الغاضبة لمليلية، لو حدث ذلك لكان الأمر مرعبا، لكانت الإنسانية كلها ارتعبت من عملية النهب والحرائق والاغتصاب وعمليات قتل”.
وأضاف نفس الكاتب: الأمير الخطابي صرح أنه لا يريد الحرب “لكننا على استعداد للدفاع عن شرفنا”.
وتوجت المعركة الكبرى بمنطقة أنوال بانتصار ساحق للمجاهدين الريفيين، مما شكل ضربة موجعة للغزاة المعتدين الذين تكبدوا خسائر فادحة في الأرواح والعتاد وقدر عدد القتلى بالآلاف من بينهم الجنرال “سلفستر”، كما غنم المجاهدون أسلحة عصرية عديدة ومتنوعة.
اعتبر المؤرّخون بأن هذا الانتصار على الجنرال “سيلفستر” الإسباني وقتل أغلب جنوده والسيطرة على مدافع الجيش بأنها أول خسارة يتلقها جنرال غربي يخسر فيها جميع مدافعه دفعة واحدة في شمال افريقيا.
وهي الخسارة الأكبر في تاريخ للجيش الإسباني خلال القرنين 19و20.
كانت هزائم الإسبان في الريف سببا مباشرا في سقوطِ حكومة “بريمو دي رِبيرا”، ثم سقوطِ العرش الإسباني، ثم الحربِ الأهلية التي عصفَت بالجمهورية على يد فرانكو.
فكان هذا الانتصار سببا في إنهاء الملكية بإسبانيا.
وتركّز الرعْبُ من ابن عبد الكريم، حتى من اسمه، فقد منعت فرنسا الناس أن يُسموا أبناءَهم «عبد الكريم».
فُوجئ الفرنسيون بانتصار الخطابي على الإسبان، كما فُجعوا بانسحاب القوات الإسبانية من إقليم الجبالة كله، لذا قرَّرُوا التدخُّل في القتال ضدَّ الخطابي ولمصلحة الإسبان، وكانت فرنسا تخشى من أن يكون نجاح الخطابي في ثورته عاملًا مشجِّعًا للثورات في شمال إفريقيا ضدَّها، كما أن انتصار المقاومة في الريف يدفع المغاربة إلى الثورة على الفرنسيين ورفض الحماية الفرنسية.
هنا قررت فرنسا التحالف مع الإسبان في الشمال، للقضاء على المقاومة الريفية وقائدها محمد عبدالكريم الخطابي، لإعادة “شرف” إسبانيا الضائع بين جبال الريف الشامخ.
وأمام هذا الوضع، عقدت إسبانيا تحالفاً مع كل من فرنسا وبريطانيا لتصفية الخطابي، وتمت محاربة الريف سنة 1925 بأزيد من 450 ألف مقاتل، واستعملت أسلحة ومواد كيميائية محظورة.
وأكَّد ابن عبد الكريم الخطابي لصاحبه المؤرخ محمد سلام رحمهما الله أن حِصار عاصِمة المجاهدين أجْدِير شاركت فيه مِائتان وخمسون سفينة حربية وتجارية، منها ثلاث حاملات للطائرات.
وبعدما عجز المحتلون الغزاة عن إخضاع الريف ولو اقتضى الأمر في ذلك باستخدام أسلحة الدمار الشامل المحرمة دوليا، قصفوا قبائله بأطنان من القنابل الكيماوية السامة من مخلفات الحرب العالمية الأولى، فاستهدفوا المساجد والأسواق والتجمعات السكانية والحقول.
وقد طلبت الحكومة الإسبانية المساعدة من فرنسا وألمانيا لتشييد معامل عسكرية عصرية متخصصة في إنتاج الأسلحة الفتاكة وتوليد المركبات الكيماوية الحربية. فأنشئ لذلك معملان أحدهما بمدينة مريوزا بإسبانيا، والثاني قرب مدينة مليلية بضاحية مارشيكا قرب بحيرة الناظور. (العدوان الكيماوي على الريف، للأستاذ الجامعي الدكتور جميل حمداوي).
وابتداء من سنة 1923م، ستقرر إسبانيا بناء معملين لتصنيع الأسلحة السامة والمواد الكيماوية ، الأول في :” سان مارتين دي لافيغا (في الجنوب الشرقي لمدريد)، أطلق عليه اسم” ألفونصو الثالث عشر”. لكن وأمام ضعف الإنتاج، تم ربط الاتصال بمجموعة ستولزينبرغ Stolzenberg الألمانية، التي اقترحت تصنيع الكبريت بمليلية بطريقة تقليدية، تعتمد على معالجة المادة الأولية- ديجلكتول- بحامض الهيدروكلوريك. وتمت العملية بشراء أطنان من الديجلكتول، كانت الوحيدة من نوعها في العالم بأسره، وتم تهريبها من ألمانيا. كل هذه الأنباء والمعطيات وردت في برقية عثر عليها بين وثائق رومانوس. أما عن المصنع الذي كان إيزا يريد بناءه بمليلية، فقد تأتى له ذلك. فالمصنع حسب خريطة أنجزتها شركة مناجم الريف للمنطقة سنة 1934م بسلم 1/20.000 كان يقع بموازاة الخيمة الثانية، في الكيلومتر7.400 من الطريق المؤدية إلى الناظور، وسمي بشكل واضح بمصنع الغازات.” (العدوان الكيماوي على الريف، للأستاذ الجامعي الدكتور جميل حمداوي).
الطيران الاسباني و الفرنسي قصف بالغازات السامة المحرمة دوليا في جريمة حرب يعاني منها لحدود اليوم سكان أقاليم الريف بارتفاع نسب حالات السرطان، إبادة جماعية للبشر و الأخضر و اليابس. و كان شهر شتنبر شاهدا على جرائم حرب وإبادة جماعية علق عليها بعدها القائد “برانغوير” قائلا: “استخدمت الأسلحة الكيماوية بمتعة حقيقية”! (حسب مقال للباحث والصحفي فيصل عنفار بعنوان: محمد عبد الكريم الخطابي.. مؤسس حرب العصابات (2)).
وكانت القنابل التي ترمى على الريف تزن 20 كلغ ، و50كلغ، و100كلغ، وتترك آثارا تدميرية مروعة عبر مسح العديد من الكيلومترات المربعة، أي إن كل قنبلة تدمر 2500م2. وتحملها طائرات مستوردة من فرنسا وألمانيا والدانمرك كطائرة كولياث Goliath، وطائرة فارمان FarmanF-60، وبريگيت Breguet XIV ، وDH-9 ، و DH-4. (العدوان الكيماوي على الريف، للأستاذ الجامعي الدكتور جميل حمداوي).
اضطرت الأمير الخطابي صيف 1925 إلى طلب المساعدة من اللجنة الدولية للصليب الأحمر بجنيف للتدخل بشكل مستعجل لتوفير الإعانة الطبية لصالح ضحايا الغازات الكيماوية السامة، لكن طلبه لم يأخذ بعين الاعتبار.
فإن: “ضخامة حرب الريف وحجم استعمال أسلحة الدمار الشامل فيها وخاصة الأسلحة الكيماوية من غاز الخردل عبر قنابل الكاربونت والإلكترون انطلاقا من 533 طائرة وبحجم 400 طن من غاز اللوست، حيث وصل حجم القنبلة الواحدة ما بين 20 إلى 100كلغ، يعد من أخطر الجرائم التي تدخل في حرب الإبادة الجماعية”. (العدوان الكيماوي على الريف، للأستاذ الجامعي الدكتور جميل حمداوي).
وتورطت كل إسبانيا وفرنسا في قصف الريف بالغازات الكيماوية السامة، وهذه الجرائم ضد الإنسانية لا تزول بتقادم الزمن، وفق القانون الدولي، وهو ما يجعل انتقام إسبانيا من انتصارات الريفيين عليها، باستعمال الأسلحة الكيماوية والغازات السامة المحرمة قانونيا وأخلاقيا، متناقضا وكل الاتفاقيات والمعاهدات الدولية، كمعاهدة فرساي 1919 ومعاهدة واشنطن 1923 وبروتوكول جنيف 1925(المتعلق بحظر استعمال الغازات السامة ووسائل الحرب الجرثومية) في جبهات القتال، وضد المدنيين والأسواق ومصادر المياه، جريمة ضد الإنسانية بكل المعايير والقوانين الدولية. وتتحمل الدول التي كانت وراء استعمال الغازات السامة بالريف مسؤولية جنائية ومدنية.
تسبب الغازات السامة والمبيدات الكيماوية الأمراض السرطانية التي تنتقل وراثيا وجينيا عبر الأجيال، وتنتقل من البيئة الحيوانية والنباتية والهوائية إلى الإنسان عبر العصور من الأجداد إلى الأبناء والأحفاد.
في الوقت الذي كانت فيه طائرات فرنسا وإسبانيا تقوم بإلقاء الأسلحة الكيميائية والغازات السامة على المدنيين، كان الأسطول الإنجليزي يحاصر سواحل الريف.
يقول محمد محمد عمر بلقاضي في كتابه أسد الريف: محمد عبد الكريم الخطابي مذكرات عن حرب الريف: “غير أن العدو في هذه الفترة -يقصد فصل الشتاء- كان يقوم بغارات جوية أضعف مما كان يقوم به من قبل، مسعملا في ذلك الغازات السامة والقنابل المحرقة للقضاء على الريفيين ومواشيهم بقصف المراكز الحربية والمداشر والقرى، وغيرها من الأراضي المغروسة والمحروثة.
فتمادى على هذه الأعمال الوحشية اللاإنسانية في إسقاط أطنان من الغازات السامة التي كانت تقضي على جميع الحيوانات والنباتات”.
أمام هذه الإبادة الجماعية والحصار البحري الخانق الذي نفذه المحتلون على شواطئ الريف، اضطر الأمير الخطابي المفاوضة مع فرنسا التي دامت 4 أيام ليتجنب إبادة ما تبقى من أهل الريف وسقوط المزيد من الضحايا الأبرياء من المدنيين في حرب أصبحت غير متكافئة، وحقنا للدماء، فسلم نفسه صبيحة يوم 26 مايو 1926 “على شرط مكتوب وعهد مسطور على أن يكون آمنا على نفسه وأهله وأن يبقى في وطنه، ولكن فرنسا نكثت وعدها وغدرت به وسجنته أكثر من 20 عاما”. (الكاتب الفلسطيني “محمد علي الطاهر” في “صحيفة الوحدة” التي كانت تصدر بالقدس الشريف بفلسطين المحتلة، شهر ماي سنة 1945، مقالا بعنوان: فرنسا والأمير عبد الكريم الخطابي).
وأضاف نفس الكاتب: “كيف يليق بفرنسا وهي دولة “متحضرة” أن تغدر بعهدها للأمير الخطابي وتنفيه وتعذبه؟
وبأي وجه تعينه بالحنث في كلمة تقول بأنه أعطاها إياها بأن لا يهرب؟
إنني أسأل “هيئة الأمم المتحدة” كيف تسكت على سطو فرنسا ومثيلاتها على شعوب الأرض وأوطانهم وحبس ملوكهم وأمرائهم وأحرارهم ومجاهديهم وإخفائهم بجزر المحيطات النائية والمنافي الساحقة؟ بدون أن تقول هيئة الأمم المتحدة لفرنسا وكل من كان على شاكلتها من الدول: قفي مكانك أيتها الحكومات التي سودت وجه الإنسانية بعدوانك على الإنسانية!
إن القانون العام في الدنيا يعتبر خطف الإنسان جريمة فما بال هيئة الأمم المتحدة التي تألفت على أن تكون “بوليس الدنيا” لحماية الأمم من الأمم!”
ورغم استسلام الخطابي في معركته العسكرية ولكنه انتصر في معركة ترسيخ فكرة المقاومة واستطاع أن يكون رمزا خالدا في تاريخ المقاومة وأكد أن الشعوب مهما كانت ضعيفة ولا تمتلك الموارد فهي قادرة على التغيير بأدنى الموارد المتاحة.
وسطر دروسا في الدفاع الشرعي عن الذات والهوية والوطن والإنسان، وكانت رمزا وأنموذجا لمقارعة كل أشكال الاستعمار والتمييز والعنصرية.
أصبح مدرسة في المقاومة حيث صرح وفد فلسطيني أثناء زيارة قاموا بها لبيكين في سنة 1971، وإلتقوا بالزعيم الصيني (ماو تسي تونغ)، وفي معرض حديثهم و سؤالهم عن أساليب الحروب التحريرية الشعبية أجابهم برد أدهشهم حين قال لهم: (جئتم تريدون أن أحدثكم عن حرب التحرير الشعبية، في حين يوجد في تاريخكم القريب عبدالكريم الخطابي الذي هو أحد المصادر الأساسية التي منها تعلمت الكثير) .
ذاع صيت المجاهد الأمير الخطابي ليس فقط في الوطن العربي بل أنتقل اسم محمد الثائر وثورته الريفية إلى الصين وفيتنام وامريكيا اللاتينية والتى لاقت الفكرة شهرة واسعاً بين النخب ومنهم “كاسترو” كوبا والطبيب الارجنتيني “جيفارا” وتحولت ثورة الريف إلى مدرسة يتتلمذ عَلَيْها ثوار العالم الذين أصبحوا فيما بعد شخصيات عالمية.
كان الأمير شخصية مقاومة فذة ذو دهاء وحنكة في ساحة الوَغَى، مبتكرا أشكالًا جديدة من المقاومة ومواجهة الأطماع الاستعمارية، ودفعت الثائر الشهير “غيفارا” إلى زيارته في منفاه الاختياري في القاهرة، مخاطبًا إياه: «أيها الأمير، لقد أتيت إلى القاهرة خصيصًا لكي أتعلم منك».
ومن أقواله التاريخية: “إن انتصار الاستعمار ولو في أقصى العالم، هو هزيمة لنا وفشل لقضيتنا، وانتصار الحرية في أية بقعة من بقاع العالم، هو انتصار لنا”.
انبهار واندهاش كبار الصحفيين والكتاب في الأمير المجاهد محمد بن عبد الكريم الخطابي:
وصفه مراسل صحيفة “ديلي ميل” الإنجليزية “ورد بريس” بوديع المحيا دائم الابتسامة، يشعر المتحدث إليه بالطمأنينة والعطف، كما وصفه بالرجل الهادئ الذكي.
وصفه الكابتن “هاوكس” اختاره الناس بمحض إرادتهم واختيارهم، كانت أوامره تطاع وضرائبه تؤدى من دون تذمر يذكر.
وقال عنه مراسل صحيفة “مورنين بوست” الإنسان يصيب بالحيرة في الوهلة الأولى كيف لهذا الرجل اللطيف المنظر ذلك التأثير العظيم على قبائل الريف المشاكسة! ولكن عند اكتشاف شخصيته العظيمة تدرك أنه ليس زعيما فقط بل مصلح تأثيره بلغ مدى يصعب تصديقه في تغيير أحوال قبائل الريف.
أما مراسل صحيفة “شيكاغو تريبون” الأمريكية عند زيارته لمقر سكناه لاستجوابه عبر عن دهشته من بساطة نمط عيش الأمير الخطابي: أول ما استوقفني خلو المكان من مظاهر الأبهة والعظمة، ولم يكن على الباب الخارجي سوى حارسين، أما في الداخل فلم أرى حرسا على الإطلاق، وليس في مظهره ما يميزه عن سائر المواطنين بالريف، يرتدي نفس لباسهم.
ووصفته صحيفة “دويتشه الجمينه تسايتونغ” الألمانية بالقائد الماهر ومنظم حاذق وسياسي حكيم.
وتساءلت الكاتبة الإسبانية “ماريا روسا”
فمن هو هذا الشخص الذي دفع الكاتب الفرنسي الكبير “لويس أراغون” ليعلن : “عبد الكريم كان رمزا دغدغ شبابنا”.
أما الصحافي الأمريكي “فانسنت شين” الذي زار الخطابي سنة 1924، فقد صرح ذات يوم لإحدى المحطات التلفزيونية الأمريكية أن غاندي وعبد الكريم هما الشخصان اللذان أثرا في حياته.
وقال عنه “السير كورتى” عضو مجلس العموم البريطانى 1921، “إن هذا الرجل الذى ينادى باسمه أهل آسيا وأفريقيا والهند ويتغنون باسمه، إن هذا الرجل الذى يقاتل باسم الإسلام ويعيد إمارة المؤمنين والخلافة الإسلامية، إنه لخطر عظيم على البلاد الأوربية”.
وقال عنه الصحافي الأمريكي فانسن شون 1926، “دخلت على عبد الكريم في خندق أمامي، والطائرات الإسبانية والفرنسية تقذف المنطقة بحمم هائلة فوجدته مبتسما مرحا يضرب ببندقيته البدائية الطائرات، فتعجبت من هذه الظاهرة البشرية الفريدة”.
ونقلا عن كتاب 100 من عظماء أمة الإسلام غيروا مجرى التاريخ للكاتب والشاعر الفلسطينى جهاد التربانى.
ووصف مراسل صحيفة “التايمز” الأمريكية عبقرية الأمير الخطابي وحكمته الفائقة في “اختيار زمن ومكان القتال”.
فكان الأمير الخطابي يختار شهر ربيع الأول لمهاجمة المستعمر، ففي هذا الشهر يقيم الإسبان حفلات وأعيادا بمناسبة انتصارهم على المسلمين وطردهم من الأندلس، بالمقابل كان المغاربة أحفاذ المسلمين المطرودين من الأندلس يقيمون المآتم حزنا على ما فقدوا من ذويهم وضاع من أرضهم وأملاكهم، فيختار هذا التوقيت لينغص على المستعمر فرحته وليستبدل أحزان المغاربة بالأفراح.
وقال الكاتب الفسطيني رشدي الصالح ملحس في وصف الأمير الخطابي: إن التاريخ سيخلد اسم البطل الخالد ابن عبد الكريم الخطابي بين صفحاته منقوشا بالذهب، مقرونا بالإعجاب والإجلال، ولذلك يجب أن نحفظ ترجمة حياة الأمير في الصدور، وأن يلقنها الصغير والكبير، لتكون درسا مفيدا للأمم الضعيفة وعبرة للشعوب المغلوب على أمرها، لتعلم أن قوة الإيمان ومضاء العزيمة هي أفعل في النفوس من قوة الأساطيل والدبابات والطائرات، وأن لله في خلقه رجالا إذا أرادوا أراد، “وكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين”. (سيرة الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي بطل الريف” للكاتب الفلسطيني رشدي الصالح ملحس- القاهرةالطبعة 1924م).