رحيل منظر حركة “احتلوا وول ستريت” ديفيد غريبر (David Graeber)
في مثل هذا الوقت، ومنذ شهرين توفي ديفيد غريبر (David Graeber) الانتروبولوجي والاقتصادي الأمريكي الأكثر إثارة للجدل في الأوساط الأكاديمية الأمريكية والأوروبية خصوصا في مجال الأنتروبولوجيا.
وأعلنت زوجته عبر صفحتها بتويتر خبر وفاته بالعبارات التالية: “البارحة توفي أفضل شخص في العالم، زوجي وصديقي في مستشفى البندقية”.
رحل في شبه صمت/ وخبر وفاته لم يتم تناقله إلا من قبل بضعة صحف عالمية خصصت بعض الكلمات للحديث عن المسار الفكري الاستثنائي لهذا الأنتروبولوجي ذي التوجه الأناركي الذي كرس كتاباته خلال أكثر من عشرين سنة لفضح وكشف الغطاء عن الأزمة الروحية والأخلاقية لليبرالية المتوحشة وتناقضات وتهافت السرديات الكبرى للرأسمالية.
فضح بشكل راديكالي لاذع جشع “أسياد العالم” ومكر النخب السياسية والمالية المتحكمة في رقاب البشرية جمعاء. لذلك يعتبر مع جوزيف ستيغليتز وناعومي كلاين من أشهر الإيقونات الفكرية لمناهضة الليبرالية المفترسة.
ولد عام 1961 وينحدر من أسرة نيويوركية مثقفة ويسارية التوجه ، والداه كانا هواهما أناركيا ومنخرطان في كل الأنشطة النقابية ضمن اليسار الجذري، حارب أبوه بجانب الجمهوريين ضمن قوات الألوية الدولية ( Las Brigadas Internacionales) خلال الحرب الأهلية بإسبانيا.
وفي مثل هذه البيئة لم يكن غريبا أن يعلن غريبر في أحدى مقابلاته مع مجلة (The Village Voice) أنه منذ 16 عاما اعتنق الفكر الفوضوي وأضحى نمط وأسلوب لحياته.
كان رائد الفكر التحرري بالولايات المتحدة الأمريكية، اعتبرته صحيفة نيويورك تايمز في عام 2005 واحدا من أكثر المفكرين تأثيرا بالعالم الأنجلوساكسوني، واعتبره موريس بلوخ “أفضل مُنظّر أنثروبولوجي في جيله في أي مكان في العالم”. وتعتبر كتبه من الأكثر مبيعا في الولايات المتحدة وأوروبا.
ندد بشدة بالنظام الرأسمالي النيوليبرالي وطالب بنموذج حضاري جديد أكثر مساواة وعدلا وإنسانية، نموذج لا ينظر فيه للعالم كسلعة وللإنسان كمجرد رقم داخل مصفوفة التوازنات والأرباح . كان ناشطا بارزا بنيويورك منذ عام 2000 ضمن الحركات البديلة للعولمة، وشارك في عدة احتجاجات ضد المنتدى الاقتصادي العالمي ورافع من أجل إلغاء ديون الدول الفقير.
لكن إشعاعه البارز كان ضمن حركة “احتلوا وول ستري ” (Occupy Wall Street) ويعتبر مهندسها على المستوى الفكري والتنظيمي من خلال مشاركته الفاعلة في الاجتماعات التحضيرية عام 2011، وكان وراء شعارها المركزي الملهم والقوي والشهير: “نحن الـ 99%” ( We Are The 99%) وهي اختصار لعبارة “ما يجمعنا هو أننا نشكل 99% التي لم تعد تتحمل جشع وفساد ال 1 % المتبقية”.
كان حاضرا باستمرار في منتزه زوكوتي في قلب المركز المالي بنيويورك حيث نصب المحتجون خيامهم، وشارك في التجمعات العامة ومختلف حلقيات النقاش العمومي.
حدسه الفكري مبهر غاية الإبهار، لديه قدرة رهيبة ليبدع سرديات مضادة وخارج الصندوق (حول تاريخ الديون، البيروقراطية، الوظائف التافهة، الرأسمالية…) ، ليفجر الفقاعات التي حبستنا فيها السرديات التقليدية القمعية والتي أوهمتنا أن الرأسمالية ديانة جديدة وهي القدر الأبدي للإنسانية. أعاد بحدة عميقة تشكيل النقاش السياسي والاشتباك الفكري خارج الأنساق السائدة بخصوص أفق الوعي الاحتجاجي في الأوساط الأكاديمية والطلابية اليسارية بالعديد من الجامعات الأمريكية والأوروبية بحيث زعزع القواعد الفكرية الجاهزة والقوالب الضيّقة للمرجعيّات الأرثوذكسية .
بسبب مواقفه السياسية الراديكالية واشتباكه الملموس بالحركات الإحتجاجية بنيويورك رُفِض ملف ترسيمه بجامعة يال (Yale) حيث كان يشتغل أستاذا مساعدا وطرد منها عام 2007 ، ليبدأ مسارا أكاديميا جديدا بإحدى أرفع المؤسسات الجامعية للعلوم الإنسانية في العالم وهي كلية لندن للاقتصاد (London School of Economics).
نشر عام 2011 كتابه : “الديون تاريخ 5000 سنة” وحقق مبيعات قياسية وفيه قام بأماطة اللثام عن العنف والقهر اللذان رافقا العلاقات الاجتماعية المالية عبر التاريخ ، فدائما ما كان الأقوياء يستخدمون الديون لإخضاع وإذلال الضعفاء والمحتاجين. نشر عام 2013 مقالة بمجلة (magazine Strike ) تحت عنوان “ظاهرة الوظائف غير المجدية” (the Phenomenon of Bullshit Jobs) وسرعان ما ترجمت ل 13 لغة، مما شجعه على تحويلها لكتاب صدر عام 2018.
يتناول الكتاب كيف أن مجموعة من الوظائف في المجتمعات الرأسمالية المعاصرة عبثية لا فائدة منها ولا معنى لها، فهي لا تؤدي أية وظيفة حيوية في المجتمع لكن الأوليغاؤشية المالية والاقتصادية تفضلها على باقي الوظائف وتشجعها وتغدق عليها أجورا مغرية. وعالم بدون عمال النظافة والفلاحة والصناعة الغذائية وتوزيع الماء والكهرباء والمواد الغذائية والتجار الصغار والبنائين والأطباء والممرضين والمعلمين ورجال الأمن….
هو عالم سيعيش اضطرابا ومشاكل لأن هذه الوظائف تلبي حاجيات أساسية وحيوية للإنسان، ولكن ربما لن تعاني الإنسانية شيئا إذا اختفى المديرون التنفيديون للشركات أو مسؤولو التواصل أو العلاقات العامة أو المستشارون القانونيون، أو المسوقون عبر الأنترنت أو الهاتف أو …( تأكد الأمر بشكل واضح مع انتشار وباء كوفيد 19)، وفي ملاحظة ذكية يوضح غرايبر أن الأمور الإدارية البيروقراطية وتعبئة الأوراق والمعلومات تستنزف وقت وعمل الأطباء والممرضين والأساتذة.
آمن غريبر إيمانا شديدا بفكرة التمكين الذاتي للإنسان وبإمكانية نجاح الفعل المباشر في الميدان عبر أساليب التنظيم الذاتي وابتكار سبل جديدة للديموقراطية المباشرة الأفقية في أفق تغيير أنماط الفكر والسلوك، فالتساؤل عن معنى أن تكون إنسانا وأن تكون متحررا هو بداية اليقظة الأخلاقية الثورية التي تشكل تهديدًا لآليات سيطرة السلطة على المجتمع، مما سيعمل على تقويض هيمنتها القهرية، وفي الأخير ما من أحد حر ما لم يتحرر الكل.
عرف غريبر وسط زملائه غوطلبته برفضه الشديد للشكليات والرسميات والتراتبيات والألقاب وبعفويته وتواضعه الشديد وكان يكره المنصة والمنابر ويحب الجلوس في الأرض ليلقي محاضراته وكلماته في العديد من التجمعات الإحتجاجية الطلابية في العالم.
غريبر سليل زخم فكري ليسار تحرري، بقي على الهامش ولكنه لم يتوقف يوما عن إشعاعه الفكري والنظري بدءا بـ: وليم غودوين، جوزيف برودون، باكونين، مالاتيستا، كروبوتكين، ماكس ستيرنر، إيما جولدمان، جورج أورويل، موري بوكتشين، تشومسكي، ميشال أونفراي…إنهم يلتمسون طريقا جديدا في الفكر والحرية عبر إرساء سلطة نابعة غير متعالية، سلطة أفقية مبثوثة في الفضاء التشاركي العام تحرر الإنسان ولا تشكل عبئا عليه.
وكانت بصمة هذا المثقف الممارس والملتزم واضحة في الحركات الاحتجاجية التي اكتسحت الساحات والفضاءات العامة منذ عام 2011 لتحاول استعادة السلطة التي سُلبت من المواطنين.
محمد سعدي Mohamed Saadi / أستاذ بجامعة محمد الأول، مؤلف كتاب “حراك الريف: دينامية الهويات الاحتجاجية”