هارون الرشيد أو “واش انت هارون الرشيد” قصة خليفة نسجت حوله قصص وروايات
لا يمكن إلا أن يسترعي انتباهنا مقالا أو دراسة أو بحثا، ربما في جيل سابق، وتتداعى الحكايات، ربما حتى في الأجيال الحالية، قصص هارون الرشيد وتحت مقولة “واش انت هارون الرشيد”، تعبيرا عن مغامرات الرجل في علاقته بالنساء، تكاد ومرة أخرى ربما، سيرة خليفة عباسي التي تناولت بالدراسة و الأبحاث ، تطرقا لفترة ذهبية في تاريخ ما سمي حضارة عربية إسلامية، عودة على بدء مقولة “واش انت هارون رشيد” تحيل لغزوات الخليفة في علاقاته بالنساء، وتعددها، وتحيل حتى لأصل تداول أشهر كتاب نسب للعرب، أو ترجم لصالح العرب، “ألف ليلة وليلة” بغض النظر، لنقرأ بتمعن هذا المقال، نقلا عن حفريات، حول خليفة أثار الكثير من الجدل لمنى يسري صحافية وكاتبة مصرية..
رجل جديّ يحمل طابع اللهو
حفلت سيرة الخليقة العباسي الخامس هارون الرشيد، بالعديد من القصص والحكايات، ربما لأنّه الخليفة الأشهر بين نظرائه من خلفاء الدولة الإسلامية، فقد بلغ صيته الحوليات الأوروبية التي ذكرته باسم “Aron” وكذلك الحوليات الصينية واليابانية التي ذكرته باسم “Alon”، وهو ما لم يكن لغيره من الخلفاء المسلمين. في تلك الحكايات امتزج الخيال بالحقيقة، فصار على الباحث والمدقق تمييز ما هو حقيقي، عما صنعه خيال البشر، كالمكتوب عنه في أشهر كتب الأدب العربي “ألف ليلة وليلة”.
ولم يتوقف الأمر على كتب التاريخ والحوليات العربية والأجنبية؛ بل إنّ الدراما التاريخية العربية تناولت سيرة الرشيد وحياته كثيراً، وفي قوالب مختلفة، كان آخرها مسلسل هارون الرشيد الذي عُرض في رمضان 2018 وأخرجه السوري عبدالباري أبو الخير، وسبقه إلى ذلك المخرج الأردني أنطوان ريمي عام 1977، وكذلك المخرج أحمد توفيق الذي أخرج مسلسلاً بنفس الاسم عام 1997 وجسد البطولة فيه النجم المصري الراحل نور الشريف.
وعلى الرغم من تلك الشهرة، إلّا أنّ هناك العديد من المفارقات والتناقضات، وكذلك الروايات المغمورة عن حياته، والتي تكشف الجانب الإنساني الطبيعي لأي شخص، بعيداً عن كرسي الحكم ونرصد في حفريات (الموقع الدي نقلنا عنه هذه الدراسة) ” عشراً منها:
أولاً: اختلف وصف هارون الرشيد بين كتب التاريخ، وكتب الأدب والأغاني والشعر؛ فالمؤرخون وصفوه برجل جديّ يحمل طابع اللهو، على العكس من كتاب الأدب والشعر والأغاني، والمرجح أنّ هارون الرشيد حمل الوجهين معاً؛ فقد كان شاباً محباً للهو والتنكر ومرافقة العامة، في مراهقته وشبابه، بينما حارب مع والده المهدي ضد الروم، وأثبت جدارته كجندي وهو لا يزال في الخامسة عشر، حتى ولّاه والده على أرمينية وأذربيجان.
ثانياً: لطالما وصف هارون الرشيد من قِبل معظم الكُتّاب كرجل وسيم، حسن الطلعة وقويّ البنية، وحين أدرك ذلك لم يكن يلاحق النساء كبقية الرجال، بل كانت الجواري وغيرهنّ من نساء القصر هن من يتهافتن على التقرب منه.
ثالثاً: في شبابه الأول، عاش هارون في البصرة متنكراً بين الناس، ولا يعلم أحدٌ أنّه ولي العهد، فأحب شابة فقيرة من بني عاصم تُدعى عصماء، وأخبرها أنّه تاجر من بغداد ليتزّوج منها، ولما حملت منه واستدعاه أخوه الهادي إلى بغداد، تركها وجنينها الذي لم يره أبداً، ورحل ولم يعد مرة ثانية، بينما كانت عصماء الأقرب لقلبه؛ لأنّها الوحيدة التي أحبته لشخصه، لا لأنّه ولي العهد، وهو ما أقره جورجي زيدان في روايته عن عصماء وابنها أحمد.
رابعاً: عُرف هارون الرشيد بتقواه الشديدة، فقد كان يحجّ عاماً ويغزو عاماً، كما روى المقريزي والطبري في حكاياهم عنه، إلّا أنّ ذلك لم يمنعه من حب مجالس الغناء والرقص وشرب الخمر، فقد كان مجلس الغناء طقساً أساسياً في حياة الرشيد، وكان يستجلب المغنيات الحسناوات من كل بقاع الدولة الإسلامية، وكذلك الملحنين والموسيقين لتأليف الأغاني، وحضور مجلس الغناء الذي كانت ترافقه فيه أخته العباسة بنت المهديّ، التي كانت أحبَّ الناس إليه.
خامساً: على الرغم مما ذكرنا من حب هارون الرشيد لأخته العباسة التي كانت صديقة طفولته وشبابه، إلّا إنّ ذلك لم يمنعه من قتلها في نهاية المطاف حين حملت من جعفر البرمكي الذي زوّجه إليها بشرط ألّا يختلي بها، فلما اختليا ووقع المحظور، وحملت العباسة، لم يتورع الرشيد عن قتلها على الرغم من عدم ارتكابها لما يخالف عُرفاً أو شرعاً، فقتلها وقتل جعفر وأمر بمصادرة أموال كل البرامكة وسجنهم، طبقاً لما ذكر المسعودي في رواياته.
سادساً: “لم تشتهر مدينة في التراث الإنساني الأممي، كما اشتهرت (بغداد) وارتبط اسمها للأبد باسم (ألف ليلة وليلة) و(هارون الرشيد) وبات علامة حضارية كبرى في كل أرجاء المعمورة”، هذا ما قاله الدكتور محسن مهدي الباحث العراقي والبروفيسور في جامعة هارفارد عن هارون الرشيد الذي جعل بغداد درة المُدن؛ حيث باتت قبلة العلم والفن والأدب، مع أنه لطالما سارع بسجن كل من خرج عليه، واشتهر بقمعه الشديد لحركات المعارضة وهو من استطاع إبادة الخوارج عن بكرة أبيهم.
سابعاً: بالرغم من التطور والطفرة الثقافية التي شهدتها مدينة بغداد، وتبع ذلك بالفعل نهوض اقتصادي، لكنه اقتصر على طبقة الأغنياء، وهو ما أبرز الازدواجية الاقتصادية بشكل كبير، فبينما تكتظُ قصور الأثرياء بما لما مثيل له من أشكال الترف، تظهر طبقات من الفقراء، الذين يعانون ضيق العيش، وكان بعضهم من العلماء والأدباء الذين يرفضون عطايا السلطان الذي يُملي عليهم ما يكتبون، فكان الثراء آنذاك لمقدار العطايا التي يمنحها الخليفة لمن يعجبه، ويمنع عمن لا يعجبه، ولعل أشهر الأمثلة على ذلك ما حدث مع الخليل بن أحمد الذي هاجر إلى مصر، بعدما ضاق عليه العيش في بغداد، فكان لا يملك سوى كسرات من الخبز.
ثامناً: بعدما بلغ صيت الرشيد أوروبا وآسيا، وبلاد الصين كتبوا إليه يطلبون وده وصداقته، ونتج عن ذلك أشهر حلف في تاريخ الدولة الإسلامية بين الرشيد وشارلمان إمبراطور أوروبا، حيث تحالفا معاً لإسقاط خلافة الأمويين في الأندلس، نظراً لعداء الرشيد لبني أمية، وشارلمان الذي أراد استرداد مملكته المسيحية المنتقصة، ليتحالفا بعدما تطابقت المصالح، وربما هذا ما يعيد المراقب لموقف الرشيد الحاد من نقفور إمبراطور الروم عندما رفض دفع الجزية، فكتب له الرشيد “من هارون الرشيد أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم…” وغزا المدينة طلباً للجزية.
تاسعاً: تزوج الرشيد العديد من النساء، عدا عن الجاريات اللاتي لا يعددن ولا يحصين، لكن ظلّت زبيدة أو أمة العزيز أهم زوجاته، نظراً لأنّها ابنة عمه التي أنجبت منه ابنها محمد الأمين، ونصبّه أبوه ولياً للعهد رضوخاً لطلب والدته، ولكن كان الرشيد يميل لابنه عبدالله المأمون، وهو ابنه من جارية فارسية اسمها مراجل، لما كان يرى فيه من قوة، ونظراً لهذه التفرقة الواضحة في المعاملة بين الأخوين اقتتلا على أبواب بغداد على كرسي الخلافة حتى قتل المأمون أخاه.
عاشراً: اشتهرت حادثة نكبة البرامكة في عصر الرشيد، باعتبارها علامة فارقة في جذور الصراع العربي الفارسي، وظل عداء الرشيد مشتعلاً للبرامكة، كما لم يفعل خليفة قبله، فصادر أموالهم وقتلهم بدون توجيه تهمة بعينها، ولكن، رغم ذلك، تأثرّ الرشيد بمظاهر الفرس وقلد طقوسهم بحذافيرها، من بناء القصور، وزينتها ومظاهر الحياة والترف كلها، من دون إضافة للطابع العربي عليها، وهو ما لم يفعله الأمويون نظراً لعدائهم للفرس.
المصدر: حفريات