كمال عبداللطيف: يودع خير الدين حسيب الرئيس السابق لمركز دراسات الوحدة العربية
توفي في 12 الشهر الماضي الرئيس السابق لمركز دراسات الوحدة العربية، خير الدين حسيب. ويبدو أن وفاته لم تُثِر النقاش الذي كنا نفترض أن يُثار بشأنه، بحكم ما كان يتمتع به المركز، ما يزيد عن أربعة عقود من الحضور الوَازِن والمتميز في فضاء الثقافة العربية، وكذا بحكم أساليبه في التأطير والعمل، ومن دون إغفال مآلات المركز خلال السنوات الأخيرة، سواء في أوجُهها المؤسسية والمالية، أو في أوجهها الأخرى، المرتبطة بالمشروع القومي العربي وآلياته في العمل السياسي والثقافي.
ينتمي خير الدين حسيب (1929-2021) إلى جيلٍ من الرجال الذين ساهموا في معارك النهوض العربي والوحدة العربية. تختلف أو تتفق معه في الفكرة والمشروع، أو في طريقة العمل، لكنك لا تستطيع أن تستبعد الآثار التي بناها، بحماسٍ وإخلاص، في فضاء الفكر العربي المعاصر، ما يقرب من نصف قرن، وخصوصا في الجوانب الثقافية الموجًّهة أساساً نحو العناية بقضايا الاندماج العربي والتقدّم العربي، فقد نشأ الرجل في سياقٍ تاريخيٍّ تتطلع نخبه السياسية والمثقفة إلى بناء مشروع الوحدة العربية، وارتبط، طوال مساره السياسي والاقتصادي، بالعمل الثقافي القومي في العراق ثم في بيروت، منذ نهاية ستينيات القرن الماضي إلى حدود سنة 2017، حيث حرَّر ما أطلق عليه “وداع وعهد”.
لم تتجاوز خيارات خير الدين حسيب في السياسة والثقافة المتداول في الأدبيات السياسية القومية، كما بلورها حزبا البعث في كل من العراق وسورية، والناصرية في كل من مصر وليبيا، وطوَّرتها بعد ذلك أدبيات بعض القوميين والماركسيين العرب. التقى الرجل، في غمرة نشاطه السياسي والثقافي، برموز هذه التيارات، حاورهم وتعلم منهم واختلف مع بعضهم، ثم اختار طريقاً جعلته قريباً منهم، ومن الأفق النظري والتاريخي الجامع بينهم. لم يتغير كثيراً، ظلّ يتكلم لغة واحدة، ظلّ كما تعرّفت إليه منذ سنة 1982 إلى حدود السنوات الأخيرة في حياته، ظلّ محكوماً بحماسةٍ ارتبطت بطريقة تَطَلُّعِ جيلٍ من السياسيين العرب لشعارات المشروع الوحدوي العربي في سياق تاريخي مُحَدَّد.
أنشأ خير الدين حسيب في بيروت سنة 1975 مركز دراسات الوحدة العربية، قصد بناء مرجعيةٍ داعمةٍ للمشروع القومي العربي، مشروع الوحدة العربية. وتخصّص في الدراسات والأبحاث التي تُعْنَى بالمستقبل العربي. أنتج المركز مئات الدراسات والأبحاث، وأصدر مجلة “المستقبل العربي” لخدمة أهداف المركز. ولم يكتف بذلك، بل حَرِص، في إطار حساسيته السياسية الوحدوية، المُعلَنة والبارزة، على بناء مؤسسات أخرى تَسْنِدُ خياراته السياسية أولاً وقبل كل شيء. أنشأ المؤتمر القومي العربي، ومؤسسة مخيم الشباب العربي، وأنشأ المؤتمر القومي الإسلامي. وقد انتظم العمل في المركز بطريقة مُنْتِجَة، حيث أصدر مئات الكتب والأبحاث، وحرص على انتظام صدور مجلة المركز بمحاور ودراسات وندوات مُصَغَّرَة، لمواكبة تحوّلات الواقع العربي والواقع الإقليمي والدولي.
مارس مركز دراسات الوحدة العربية برئاسة خير الدين حسيب حضوراً جمع فيه بين وظائف المؤسستين الثقافية والسياسية
أنشأ المركز فرعاً له في القاهرة، وانفتح على جامعات ومنظمات ثقافية عربية عديدة، وذلك بتقديم هدايا واشتراكات تشجيعية، فأصبحت أعمال المركز ضمن رفوف بعض مكتبات الجامعات العربية، وتحوّل المركز، بفعل كل ما المشار إليه، إلى رافد من روافد الفكرة القومية والوحدة العربية. وقد ساهمت ندواته الكبرى، خلال العقدين الأخيرين من القرن الماضي، في صناعة الحدث الثقافي، الجاذب لمجموعات من خيرة الباحثين في الجامعات العربية، ولم تخل ندواته من نقاشات قوية ومفيدة.
مارس المركز برئاسة خير الدين حسيب حضوراً جمع فيه بين وظائف المؤسستين، الثقافية والسياسية. وضمن هذه الروح، عَمِل، كما أشير أعلاه، على إنشاء مؤسساتٍ، تقوم بأدوار مُتَمِّمَة لأدوار المركز، فقد كان المركز وراء إنشاء المنظمة العربية لحقوق الإنسان، والمنظمة العربية للترجمة، إضافة إلى مؤسّسات المؤتمر القومي.. إلا أن مختلف هذه التنظيمات والمؤسسات التي حَرِص حسيب بواسطتها على توسيع أداء المركز جاءت في زمن بدأت تتراجع فيه شعارات الأفق القومي. وكان الأمر يتطلب وقتها بناء أشكال أخرى من التفاعل مع الواقع العربي، ومع مقتضيات المشروع القومي، في زمنٍ يتغير بإيقاعٍ سريع، ومقتضياتٍ تستدعي طرقاً أخرى في أنماط الحضور والعمل.
لم يتمكن خير الدين حسيب من تجاوز السقف العقائدي الذي وجَّه انطلاقاً منه آليات العمل في مركز دراسات الوحدة العربية
وذلك على الرغم من التحولات العديدة التي لحقت العالم. ويعرف المتابعون أعمال المركز الصورة النمطية التي أصبحت مرتبطةً بحضوره وعمله في المركز، والتي تزايدت حدّتها، بحكم استمراره طويلاً على رأس المؤسسة، وبروحٍ قريبة من الروح الأبوية. قد يتساءل المرء كيف ظلّ المركز يشتغل بالطريقة نفسها، ومديره العام يشتغل بمجلس أمناء ومكتب تنفيذي مُتَجَدِّدَيْن، ويستوعب كل منهما نخبةً من المؤمنين مثله بالمبادئ نفسها، والمفترض أنها تُعايِن عن قرب ما يجري في مجتمعاتها من تحولاتٍ في السياسة والتاريخ والعقائد، وتعاين مآزق المشروع القومي وإشكالاته .. فكيف سمحت أجهزة المركز بحصول ما حصل من تماهٍ بين الرجل والمؤسسة؟ عندما نلتفت إلى الوجه الآخر للصورة، يَحِقُّ أن نتساءل عن مستويات التواطؤ الحاصلة داخل المؤسسة.
يمكن أن نجد تفسيراً لما نحن بصدده في السياق العربي العام، حيث يستوعب المجال السياسي بدوره حكّاماً وقادة يمارسون فعل التماهي نفسه، وخير الدين حسيب، على الرغم من جليل أعماله، كان عنواناً لظاهرةٍ شملت جوانب عديدة في التاريخ السياسي والثقافي العربي.
لم تستطع أجهزة المركز تطوير أهدافه وملاءمتها مع متغيرات عالم جديد ومقتضياته. نتصوَّر أن أهداف المركز تحتاج اليوم، بعد مرور نصف قرن على تبلورها، إلى تعديلاتٍ تُضفي عليها طابعاً أكثر ملاءمةً لمتطلبات الأوضاع العربية والإقليمية الجديدة، فقد تغيّرت معطياتٌ سياسيةٌ واقتصاديةٌ وفكريةٌ ومؤسسيةٌ كثيرةٌ في وطننا وفي العالم، وهذا يستلزم إعادة النظر في بعض جوانب مفردات هذه اللغة، من أجل بيانٍ يستأنف التأسيس والعمل.
المصدر: العربي الجديد