منذ غادرت قدماي تنظيميا (منسحبا قلقا وبمرارة ) فضاء مؤتمر حزب الإشتراكي الموحد الذي انعقد مباشرة بعد اندلاع حركة الإنتفاض الجماهيري لحركة عشرين فبراير،،،
منذ تلك اللحظة المركبة بقي الشك المنهجي يأكل مني ويقتات من طمأنينتي المتفائلة القديمة التي كانت عادتها معي أنها تزدهر في دواخلي أيام الشدة والأزمات أكثر من أيام الرخاء والتوسع الهادئ….
فلقد عشت قبل هذا المؤتمر، ولما يقارب السنتين جل أجواء الإعداد لذلك الحدث، بلحظاته المتشنجة القلقة التي كانت الأصوات فيها ترتفع أحيانا حد إعلان الفرقة والتهديد بالقطيعة والإنسحاب من السيرورة بكاملها ، كما عايشت ايضا، بعد النجاح في إخماد لفحات الغضب، أجواء التهدئات المنتجة لأدب الإستماع المتبادل والجدل اليقظ بين الرفاق من جل الأعمار والتجارب والتقاربات والإصطفافات…
ولقد كان كل هذا الوقت الذي استغرقه زمن الإعداد لذاك المؤتمر، يبدو حينها طويلا، في نظر البعض من الرفاق المنخرطين بحمية سياسية مرتفعة في بحور الخلافات التي كانت تحيط وتضغط على عقول وأنفاس المناضلين…
غير أن الأمر كان يبدو طبيعيا وقتها، خصوصا إذا ما أخذنا بعين الإعتبار منحنيات الوضع السياسي آنذاك على صعيد الدولة والمجتمع وعلى صعيد ماسار يخترق الحقل السياسي و ما بدأ يرتب لمكونات العمل الحزبي برمته وفي القلب منه ومن جوهره قوى اليسار التاريخي بكافة إيقاعاته…
أتذكر اليوم تلك الظرفية التي قررت الملكية فيها وضع كل أرجلها على الفرامل الكبرى للمرحلة وللعملية السياسية التي كانت تجري في أحشائها منذ ” حدث” مرور مسؤولية الملك للملك الجديد، وحتى الإنزياح المتكبر لنخب الدولة الذين استبطنوا، وبعقيدة الغالب الظافر بأسباب الجاه والقوة ، أن مؤسسات الحكم قد أصبحت ( على الأقل منذ سنة 2005) لها كل الإمكانات والأوضاع لتؤكد، لمن لازال يحتاج إلى تأكيد ، أنها مكتفية بذاتها وليست في حاجة إلى وسيط أو معارض يقف مصدرا أو موردا يغدي شرعيتها….
فكان الذي كان…تعليب الملفات القديمة كلها والإقفال التقني المسطري عليها حتى لايتجاوز الخوض فيها حد تغيير موازين القوى وإعادة بناء الخريطة السياسية كلية ( السؤال الدستوري ومعضلة فصل السلط – أسئلة الثروة والسلطة وماينتج عنها من انتعاش للسلطوية وأسباب التراجع- أسئلة الحقيقة عن ماضي الإنتهاكات الجسيمة عبر تنفيذ توصيات هيئة الإنصاف- الحوار الوطني حول المشروع المجتمعي لتفادي تكرار الفرص الضائعة- نزاهة الإنتخابات وإصلاح القوانين المنظمة لها…)….
وكلنا اليوم نعرف المآلات التي بلغها هكذا تخطيط تدبيري فرداني يمحو كل الإنفتاحات والتراكمات التي راكمها المغرب منذ عقود وحتى في ظل وعلى هامش سنوات الرصاص….
كل هذا النسيج من المعطيات والوقائع كان يتقمص حضوره في قاعات تحضير الحزب الإشتراكي الموحد آنذاك، ويجد لنفسه مكانا في أذهان المناضلين…وكانت الإنشغالات الكبرى ألتي تعبر عن درجة تفاعلهم مع الحالة الوطنية تلك تقوم على أساس الأسئلة التالية:
1- هل يستطيع اليسار أن يواجه عودة تغول الدولة وبأي معنى؟
2- ماهي أوضاع اليسار؟ بين تراجع وضعف وتشتت وتوسع خلافات؟
3- كيف يقرأ الحزب الإشتراكي الموحد ميزان القوة الذي سار يظهر بقوة أنه مختل لصالح مركب الدولة وتحالفه الطبقي السياسي الثقافي؟
4- هل تملك معارضات اليسار وعيا سياسيا يسمح لها بصياغة مشروع للتغيير جماعي ومتفاوض حوله ؟
5- هل يستطيع شعب اليسار أن يأخذ المبادرة السياسية بل ويسحبها من يد الحكم ، سياسيا ومدنيا وتقافيا وجماهيريا،
أم أن جل مايمكن له فعله هو الإرتكان إلى نظرية ” الحفاظ على الوضع القائم ” le maintien du statuquo؟؟
6- هل يستطيع اليسار مجتمعا وبعد قراءات موضوعية لمساراته ولمسارات تياراته ومجموعاته بحجم تضحيات الجميع، هل هذا اليسار أن يجزم في أنه كان ولازال قوة سياسية ويمارس السياسة بما يفيد الصراع على السلطة بالقواعد الحديثة؟ أم شئ آخر غير ذلك؟
كل هذه الأسئلة البارزة منها وغير الظاهرة، المعلنة جهرا، والرائجة في كواليس الجلسات، هي ماسيحملها المؤتمرون وعلى إجابات تمت صياغتها في أرضيات لن تفلح كل المحاولات في إعادة بناءها ،أو كما يقول فلاسفة السياسة الجدلية دمجها تركيبيا….
فما الذي أعاق ومنع إمكانية رسم هذا التركيب؟ هل الأشخاص أم الظروف أم الوعي ونوعيات الثقافة السياسية؟أم أنه أمر آخر أعمق من ذلك بكثير وهو ذو طبيعة سياسية سيبقى هاربا من قدرة المناضلين اليساريين على تملكه إلى اليوم….
وربما أن تأثيره الخفي، اللاشعوري، هو الذي يكمن وراء مايقع الآن على أرض اليسار…يسار الفكرة الثورية في بلاد الملكية التنفيذية إلى اليوم…
( هذا ماسنتحدث عن جزء منه في الحلقة القادمة )