
حين أنهيت الحلقة الرابعة بتلك الخلاصة الممزوجة بالأسى والإستنكار، الخلاصة التي مفادها أن الرياح مرة أخرى انتصرت علينا ولم تترك سفينتنا تتجه نحو ميناءها الكبير، والذي كان سيجعل من المؤتمر الثالث، ليس مجرد محطة تنظيمية عادية ، بل نقطة وصل وجذب سياسية مغرية وقوية ستفرض على الجميع الإنتباه إلى ماأتت به من جديد في وقت كان فيه الحقل السياسي الوطني يشكو، بالخفي والمعلوم، من خصاص مريع على هذا الصعيد…
قلت حين انتهيت إلى هذا التقييم/ الخلاصة، بادر أحد الرفاق إلى الإتصال بي لمناقشتي في ماصرحت به وذهبت إليه، متسائلا عما وقع ، وهل كان بالإمكان أحسن مما كان؟؟ و أن الذي جرى وبكيفيات كانت فيها الحنكة والحكمة قليلة هو ما كنا جميعا نستحق ؟؟ أم أن في الإحتمال كان بإمكاننا أن نصنع حدثا يستحقنا ونستحقه ويعكس جزءا مما بدأنا نراكمه من ذكاء في إدارة ماأسميته بقدرة ” التركيب والنسج ” لا ” المساكنة والتعايش ” الهش…
ولو أنني لست من عشاق رياضيات التوقعات في بحور الماضي، حيث لازلت أعتقد بأن الذي حدث وتجاوزته الأيام يصير في عداد المنتهية صلاحيته سياسيا…فإنني مع ذلك حاولت أن أفسر لهذا الرفيق العزيز أن لاشئ غير ممكن في السياسة، شرط أن يكون ” شرط الوعي اليقظ ” هو دليلنا في الممارسة السياسية، وليست أشياء من طبيعة غير سياسية..
وهنا لابد أن أذكر لكل من يتابع هذه السطور من الأصدقاء والرفاق والمهتمين بالشأن الحزبي اليساري، بأن المؤتمر الثالث قد مرت عمليات الإعداد له في لحظتين تاريخيتين متفارقتين، لحظة البداية وكان أبرز مايطبعها هو، كما قلت في الحلقات السابقة، ما كنا نسميه بانغلاق أقواس الإنفتاحات les ouvertures التي أطلقها عهد الملك الجديد…والعودة إلى خيار الإستحواذ الملكي على مسالك ومعابر الدولة والمجتمع بمافيه من بلقنة وتذرير للوجود الحزبي كماهية ووجود…وفي هذه الفترة كان الهاجس الغالب على الإعداد هو البحث عن جدوى البقاء ومقاومة الضعف التنظيمي والبشري….دون القدرة على بلورة مشروع للمجابهة يتساوى مع حجم الهجوم المخزني..
.لقد كان الإختلال في ميزان القوة قد توضح خصوصا وأن النظام السياسي لم يعد يرتب اختراقاته عن بعد، أو عبر خطة موقع ضد موقع، بل إنه انتقل هذه المرة إلى الهجوم من الداخل عبر خلق ركائز في قلب الحقل الحزبي، بل إن طموحه قد ارتفعت نسبته، في هذا الإطار، إلى حدود ترويج فكرة صناعة” حزب الملك” الذي سيكون دوره هو الأستدراج والأستيعاب والإنقضاض على المعبر الإنتخابي وفرز كل الآختيارات والقرارات…
ومما كان يعزز من هذا النزوع هو المناخ الدولي والجهوي الذي سارت أدواته المهيمنة اقتصاديا وسياسيا تعلن مباركتها لأنظمة سلطوية أو نصف سلطوية تعطي أولوية لتصور مركزي لشئ اسمه التنمية أو الحاجات الإقتصادية….
أما اللحظة الثانية من التحضير فلقد أشرت على بدايتها الوقوع غير المتوقع لزلزال ماسيسمى بحركات الربيع العربي،
لقد تبدلت الأولويات بسرعة وأصبحت المطالب الديمقراطية الواسعة مطروحة على جدول أعمال الشارع العام بشبابه الحيوي وبجل القوى الإجتماعية والسياسية…وسار ماكان مؤجلا وتتلعثم في إعلانه العديد من الحركات المجتمعية هو الرائج قولا وشعارا ومضمونا برنامجيا….
لكن هذا لايعني أن يدا سحرية كانت تفتح الطريق دون عوائق كي يرتفع إيقاع التغيير ويصل مداه الأقصى بتوافق كل القوى المنخرطة في هذه الصيرورة الجامحة ولمدة أكثر من سنة…بل على العكس من ذلك، لقد أحسسنا ومنذ الأوقات الأولى لسيل المسيرات المتواصلة المتصاعدة، أن مايحدث سيستوجب منا أن نجعل من الحراك المغربي فرصة مزدوجة المهام، مهام فكرية سياسية، ومهام إبداعية نضالية يستدعيها هذا الوضع الجديد…بمعنى آخر أن لا نتأخر فكريا وفي ذات الوقت أن لانتراجع أداتيا ونضاليا…
وبالفعل يمكن القول ،بالعودة إلى تلك الأيام المركبة والمعقدة من نضال حركة عشرين فبراير، أن الفارق قد سار بارزا بين مرحلتي التحضير، لدرجة أن العديد من الرفاق غيروا في مواقفهم الكثير مما كانوا يعلنونه قبل انفجار الشارع التونسي، وعلى العموم يمكن القول أن عنوان التغيير الأكثر نضوحا هو مرور خطاب قسم مهم من اليساريين من خطاب التمجيد التنظيمي( أسبقية الإنتماء الحزبي ) مباشرة إلى خطاب التمجيد الجماهيري محفوفا في الكثير من الأوقات بتعابير استهزائية وحتى عدائية اتجاه كل ماهو حزبي حتى الأكثر يسارية فيه…ولقد كان هذا حال جل مناضلي الهيئات اليسارية الراديكالية الفيديرالية منها وغيرها في إطارات قوى الإعتراض الجذري… بحيث صارت الحركة تعلو على مكوناتها كلها، ودون أن تفرز لذاتها الجماعية أفقا محسوبا مضبوطا تتحول فيه إلى مقام المعبر الشعبي الذي يتحكم في معركة التغيير، ويخطط لها بالساعة وأختها كما يقول المثل الشعبي، ولا يسقط في تجريبية هواة تستهويهم عواطف التشخيص والشعار السهل، ولا ينجر إلى لعبة ردود الفعل حول أمور ثانوية حتى وإن تحققت لن تفيد في تقدم الصراع حول الجوهري في سياسة البلاد شيئا..
كما عادت إلى السطح حصص كبيرة من الإشكالات التي اعتقدنا أنها تبخرت ونسيها الزمن، في ظل تراكمات وبعض مكاسب النضال المؤسساتي أو الجماهيري القانوني، وخصوصا منها سقف المطالب الأحتجاجية وإلى أي مدى يمكن أن تصل، وهل التغيير يجب أن يبقي على مكونات الوضع السياسي أم يطالب بإلغائها ووضع لبنات جديدة لقيام شئ آخر…ثم مع من؟ وبأية قوى أو أي تحالف؟.
وهنا أخذت قضايا التحالف أو العمل المشترك الرسمي أو غير الرسمي مع ماسمي بقوى الإسلام وبالضبط العدل والإحسان والسلفيين…حصة كبرى داخل الحوار اليساري المختلف الأطياف….
لقد اقتحمت كل المناقشات التي كانت تتحرك في حوض الحركة العشرينية جلسات القرار والإعداد لمؤتمر الحزب، بل إنها تسللت إلى أوراق المؤتمر وباتت أساسا للتمايزات والإختلافات، من جهة، والإتفاقات والتقاربات من جهة أخرى…حتى أننا سرنا في بعض الأحيان نحس وكأننا لسنا بإزاء حوار داخلي لحزب يساري يسبح بأربعة أجنحة أو أكثر وعليه أن ينشغل بقضايا السياسة في العلاقة مع البلاد برمتها…بل إننا أخذنا لا نتداول إلا فيما يهم الحركة ومايرتبط بجداول أعمالها، وتفاصيل خصوماتها هنا وهناك…
فهل كان من المعقول أن لايحافظ المناضلون على بعض من خصوصيات فعلهم السياسي الذي كانت له عناوين سياسية وفكرية…وأن ينمحوا أمام حركة كانوا هم من صناعها الحيويين؟؟؟
هذا هو ماوقع للأسف، بل وكان سببا مباشرا في أن تأخذ أبعاد الخلاف بداخل الحركة العشرينية موقعا كبيرا في شحن الحوار السياسي بالتوثرات داخل لجان المؤتمر الثالث وخصوصا منها لجنة الوثيقة السياسية….
فكيف وقع ذلك بسهولة، وكيف تسلل الخلاف من جديد إلى كواليس المؤتمر لينتهي إلى ماانتهى إليه….