الولاء والبراء.. القتل باسم العقيدة
أقدم مهاجر فرنسي مسلم الشهر الماضي على قتل والدته وأخته، بجريمة بشعة، في قرية تراب، إحدى الضواحي التي تبعد 3 كيلومترات عن باريس، تلك القرية التي غادرها نصف سكانها متّجهين إلى سوريا والعراق؛ للّحاق بتنظيم ” داعش”، بما يؤكّد حضور التنظيم في هذه المنطقة بشكل كبير، ولكن ذلك لم يمنع وزير الداخلية الفرنسي، جيرالد كولومب، من استباق التحقيقات والجزم بأنّ الحادث “ليس إرهابياً”، وأنّ المتهم كان يعاني من مشكلة نفسية كبيرة، قبل أن يناقض الوزير نفسه في الفقرة نفسها، ليقول: إنّه كان على لائحة المشتبه بهم؛ لأنّه سبق أن مجّد الإرهاب العام 2016، ويواصل تناقضاته مشدّداً على أنّ الرجل أقرب إلى المختلّ عقلياً من الشخص الملتزم القادر على التفاعل مع أوامر وتعليمات صادرة عن منظمة إرهابية، مضيفاً أنّ النيابة العامة “لا تصنّف الحادث عملاً إرهابياً”.
صيد سهل
يلخّص تصريح الوزير أزمة صانع القرار في اوربا، وفرنسا بشكل خاص، وقبل لتطرق للدوافع المحتملة للحادث، والمتعلقة، في تقديري، بمعتقدات المنتسبين لتنظيمات السلفية الجهادية بشكل عام، و تنظيم داعش بشكل خاص، ينبغي الإشارة إلى ثغرة في جدار الأمن الفرنسي، قد يدفع الشعب الفرنسي ثمناً باهظاً لها، تتلخص في تلك النظرة الأمنية للتطرف والإرهاب، التي تفرق من خلالها بين أصحاب السجل الإجرامي الجنائي، وأصحاب السجل الإرهابي؛ حيث تفترض أنّهما مساران منفصلان، ومن ثم يبدو صاحب السجل الإجرامي لديهم من المستبعد أن ينخرط في شبكة إرهابية، رغم أنّ أصحاب السجل الإجرامي لا يمتلكون، في الغالب، الحدّ الأدنى من المعارف الدينية الصحيحة، ومن ثمّ، وفي سياق سعيهم الحثيث للطهرانية، يكونون صيداً سهلاً لجماعات التطرف والإرهاب، وهو ما فصّله أبو بكر الناجي، في كتابه “إدارة التوحّش”؛ حيث رأى أنّ تجنيد هؤلاء أسهل، وقيادهم للقيادة أسلس، على حدّ تعبيره.
الولاء والبراء” شاع في أدبيات الإسلاميين باعتباره أحد لوازم الاعتقاد وتؤمّن الثقافة السلفية له ظهيراً معرفياً راسخاً,
يبدو صاحب السجل الإجرامي الجنائي فريسة للهواجس المرتبطة بخلل نفسي، يعود في الغالب إلى إدمان المشروبات الكحولية الرخيصة، وألوان الرذيلة، ومن ثم عندما يريد أن يتطهّر، يجد من يمدّ له حبل النجاة السريع، عبر الانخراط في عملية إرهابية ينتقل من خلالها في غمضة عين إلى الجنة والمغفرة، يبدو أنّه يوجد أمر آخر يجعل فرنسا بالذات حقلاً خصباً لتجنيد الإرهابيين؛ هو أحوال بعض سجون فرنسا، التي يحتجَز بها مهاجرون مسلمون؛ حيث تمثّل أحوال تلك السجون بيئة حاضنة للتطرّف والتحريض على الدولة والمجتمع الفرنسي، وتعزيز القطيعة مع هذا المجتمع، والحيلولة دون اندماج حقيقي.
قتل باسم العقيدة
ولكن ما الدوافع المحتملة التي قادت هذا المتهم أو غيره لتنفيذ عملية بهذا الشكل؛ وهي قتل من يحتفظ بعلاقة دم معهم أمه وأخته؟
هل ثمة احتمال أنّه ارتكب فعلته؛ لأنّهم يعادون تصوّره، أو لا يشاركونه أفكاره أو معتقداته، في حال تأكّد انتماؤه لتنظيم داعش، الذي أعلن مسؤوليته عن الحادث؟ وبصرف النظر عن هذا التكتيك المتكرر من التنظيم، في إعلان مسؤوليته عن أي أفعال يقوم بها آخرون؛ سواء كانوا ينتمون إليه، أو لا ينتمون، وبافتراض أنّ التنظيم هو من ارتكب الجريمة عبر أحد عناصره، الذين نفّذوا توجيه التنظيم لعناصره والمتعاطفين معه، فنحن أمام حادثة الباعث على القتل فيها، هو سلاح الولاء والبراء الذي قد يستخدمه التنظيم خلال الفترة القادمة بكثافة، فماذا يعني هذا السلاح؟.
“الولاء والبراء”؛ مفهوم شاع في أدبيات الإسلاميين، باعتباره أحد لوازم الاعتقاد أو التوحيد، وتؤمن الثقافة السلفية له ظهيراً معرفياً راسخاً وشائعاً، جعله، للأسف، أحد أسلحة القتل باسم العقيدة .
المفهوم الذي تمّ إقحامه على العقيدة الإسلامية، يرتّب على المسلم أن يكره كما يحبّ، يكره الكفّار والمشركين، الذين قد تتسع ساحتهم لتضمّ الأب والأمّ والأخ والأخت والعمّ، وغيرهم من الأرحام، والكراهية تقود بالتبعية إلى المفاصلة التي تعني القتل في النهاية، وفق مفهومهم.
وبتأمل ما تقوله بعض الوسائط السلفية على فضاء الإنترنت عن هذا المفهوم؛ يمكن إدراك عمق الكارثة: من تلك الفتاوى والأقوال الشائعة؛ هذا النص الذي يعرض لمنزلة عقيدة “الولاء والبراء”، يقول كاتبه:
ومنزلة عقيدة “الولاء والبراء” من الشرع عظيمة، ومنها:
أولاً: أنها جزء من معنى الشهادة، وهي قول: (لا إله) من (لا إله إلا الله)؛ فإنّ معناها البراء من كلّ ما يُعبد من دون الله.
ثانياً: أنّها شرط في الإيمان.
ثالثاً: أنّ هذه العقيدة أوثق عرى الإيمان .
يقول الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبدالوهاب، رحمهم الله: “فهل يتمّ الدين، أو يُقام عَلَم الجهاد، أو علم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إلّا بالحبّ في الله، والبغض في الله، والمعاداة في الله، والموالاة في الله، ولو كان الناس متفقين على طريقة واحدة، ومحبّة من غير عداوة، ولا بغضاء، لم يكن فرقاناً بين الحقّ والباطل، ولا بين المؤمنين والكفّار، ولا بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان”.
رابعاً: أنّها سبب لتذوّق حلاوة الإيمان ولذّة اليقين.
خامساً: أنّها الصلة التي يقوم على أساسها المجتمع المسلم (إنّما المؤمنون إخوة).
سادساً: أنّه بتحقيق هذه العقيدة تنال ولاية الله.
سابعاً: أنّ عدم تحقيق هذه العقيدة قد يدخل في الكفر، قال تعالى: {وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ}.
ثامناً: أنّ كثرة ورودها في الكتاب والسنّة يدل على أهميتها.
يقول الشيخ حمد بن عتيق، رحمه الله: “فأمّا معاداة الكفار والمشركين؛ فاعلم أنّ الله، سبحانه وتعالى، قد أوجب ذلك، وأكّد إيجابه، وحرّم موالاتهم، وشدّد فيها، حتى أنّه ليس في كتاب الله تعالى حكم فيه من الأدلة أكثر، ولا أبين من هذا الحكم، بعد وجوب التوحيد وتحريم ضدّه”.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: “إنّ تحقيق شهادة أنّ “لا إله إلا الله” يقتضي أن لا يحبّ إلّا لله، ولا يبغض إلّا لله، ولا يوادّ إلّا لله، ولا يُعادي إلّا لله، وأن يحبّ ما أحبّه الله، ويبغض ما أبغضه الله”.
انتهى الاستشهاد، لكن لم تنتهِ بعد آثاره، وما قد يفرزه من جرائم باسم نصرة الدين والعقيدة.
هل بعد هذه النصوص، وغيرها، سبيل لإنكار حقيقة هذه الأزمة، بضرورة تحرير الكثير من المفاهيم التي تحوّلت إلى ساحة المعلوم من الدين بالضرورة، لتصبح ثكنة أسلحة قتل تنتظر من يستخدمها؟