جليل طليمات يكتب: على هامش اليوم العالمي للتضامن مع الشعب الفلسطيني..نقط على حروف ساخنة
تبعا لقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الصادر سنة 1977, يحتفي العالم في يوم 29 نونبر من كل سنة باليوم العالمي للتضامن مع الشعب الفلسطيني حيث تعقد تظاهرات وندوات في مختلف بقاع العالم للتعبيرعن نصرة نضال الشعب الفلسطيني في مواجهة دولة الاحتلال الصهيوني, والتأكيد على مشروعية مقاومته من أجل حقوقه الوطنية الثابتة في التحرير والعودة وإقامة دولته المستقلة بعاصمتها القدس .
في هذه السنة , والسنوات القليلة الماضية قبلها, تطبع هذا اليوم مفارقة كبرى: فبينما تصعد دولة الاحتلال من إجراءاتها لتغيير ديمغرافية الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ 1967 من خلال بناء مزيد من المستوطنات, وتوسيع أخرى , وهدم بيوت الفلسطينيين وتشريد أهلها الأصليين..الخ , بينما يحدث كل ذلك يوميا , تجاوبت وتفاعلت بحماس دول عربية مع مشروع إدارة ترامب وصهره كوشنر الموسوم ” بصفقة القرن”, فوقعت على “الاتفاقيات الإبراهيمية”, وانخرطت , بالتالي في ” حلف استراتيجي” مع دولة الاحتلال! .
أمام هذه المفارقة ,وما تفرزه على الأرض من تصعيد الكيان الصهيوني لعدوانيته وتوسعيته وتنكيله بالشعب الفلسطيني (العدوان على غزة , التهجير من حي الشيخ جراح في القدس , مشروع المستوطنات في مناطق السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية , التنكيل بالأسرى …الخ) يطرح سؤال حو دلالة التضامن مع الشعب الفلسطيني, في ضوء المفارقة المشار إليها أعلاه, وفي أجواء التطبيع وضجيج الأقلام الداعية والمبررة له ؟
يبدو أن هناك اليوم حاجة إلى إعادة تعريف القضية الفلسطينية في مواجهة تضييع البعض ( دولا, وفعاليات ) للبوصلة, و فشو ” ثقافة الهزيمة والاستسلام” التي تنزع عن القضية جوهرها , وتحرف طبيعتها , وتسوق بالتالي , لسلام وهمي كاذب وغير عادل. قد ينتفض البعض بخفة قائلا : كفى بديهيات حفظناها منذ يفاعتنا وشبابنا !, متجاهلين أن القفز عن “البديهيات” قد يترتب عنه أحينا كثيرة, تجاوز المبدئيات المؤسسة لأية قضية أو حق مشروع., وعليه فإن التذكير بها في هذه الظرفية التي تمر منها القضية الفلسطينية أمر مطلوب بإلحاح لعله ينفع في تبديد الكثير من الأضاليل في منطق دعاة التطبيع ومسوقيه :
1_ القضية الفلسطينية هي قضية شعب أقتلع من أرضه , هي قضية تحرر وطني , كما هي قضية عربية وإسلامية , فخلق أو زرع دولة إسرائيل قي قلب جغرافيتنا , كان , ولا يزال جزءا من إستراتيجية أمريكية غربية تستهدف كل شعوب ودول المنطقة، وقواها التحررية وأنظمتها الرافضة لهذه الإستراتيجية ومشاريع ” سلامها الاستسلامي” ” ولنا في وقائع أزيد من سبعين سنة, من حروب وغزو وزرع للفتن ..الخ ما يؤكد ذلك , إنها هي هي نفسها (الإستراتيجية) تحمل اليوم أسماء ” صفقة القرن” , و” سلام الشجعان” , و “اتفاق أبراهام”..الخ., وغايتها هي نفس الغاية : تأبيد الاحتلال , ومنع قيام دولة فلسطينية مستقلة ,ولو في حدود 1967, وتشجيع الانقسامات والصراعات المذهبية والطائفية والحدودية في الساحة العربية , والتصدي العدواني لأية مقاومة, واعتبارهم لها “إرهابا”!..الخ.., تلك وغيرها تجليات تلك الإستراتيجية التي تقدم اليوم نفسها على أنها مدخل السلام والأمن و الازدهار في المنطقة .., وغير ذلك من الوعود التي تكذبها يوميا وقائع الميدان في فلسطين المحتلة, وفي لبنان والجولان ومياه الخليج…
في ظل هذا الوضع, يفرض السؤال التالي نفسه بحدة: ألم يصبح أفق حل الدولتين أكثر استعصاء, وأبعد منالا أكثر من أي وقت مضى ؟ ألا يقتضي هذا الحل فعلا عربيا, رسميا وشعبيا مقاوما لتعديل موازين الصراع الفلسطيني والعربي مع دولة الاحتلال, بدل التطبيع معها ؟ ثم , ألا يشجع التطبيع الجاري على قضم ما تبقى من أراضي تحت إدارة سلطة فلسطينية مغلوبة على أمرها ؟ ,يقول الكاتب والروائي اللبناني إلياس خوري في هذا السياق : ” إنه لدى الكلام عن فلسطين ومن أجلها علينا ألا ننسى حقيقة أننا لا نتضامن مع فلسطين بصفتها رمزا أو قضية مقدسة بل بصفتها شعبا يقاوم الإبادتين السياسية والثقافية, ويناضل من أجل البقاء كشعب وكاسم وكحق وكحقيقة ” .
في ضوء هذا القول العميق والبليغ ,يصبح من الضروري التأكيد, قولا وفعلا , على البعد أو الجوهر السياسي الكفاحي للحق الفلسطيني متمثلا في : التحرير للأرض, والعودة إلى البيوت, و بناء دولة مستقلة كاملة السيادة عاصمتها القدس , ذلك هو معيار مصداقية أي تضامن عربي أو عالمي ,أما تزيين وجه دولة الاحتلال بمعاهدات واتفاقات مفترية على السلام والتعايش, ومشجعة له على مزيد من التعنت والعدوانية ,والتمادي في خلق وقائع استيطانية جديدة على الأرض, فهو منطق مضاد ” لحل الدولتين” ذاته, الذي اصبح لازمة خطاب المطبعين التي لا ” تهش ولا تنش” ! لأن الكيان الصهيوني يرفض ذاك الجل من الأصل في تحدي لجميع القرارات الأممية, وحتى لراعيته, أمريكا !
كتب الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز سنة 1984 تحت عنوان ” عظمة ياسر عرفات” مقالة مائزة تحت عنوان ” عظمة ياسر عرفات”, مما جاء فيها : ” القضية الفلسطينية هي أولا مجموع المظالم التي حلت بهذا الشعب ولا تزال تحل به , من بين هذه المظالم أعمال العنف, ولكن من بينها كذلك الأشياء اللامنطقية , والبراهين المغلوطة والضمانات الكاذبة التي تدعي أنها تعوض الفلسطينيين وتنصفهم” (أنظر:محمد بنيس في كتابه “فلسطين ذاكرة المقومات” ص 86 ) . لاشك في أن هذه ” البراهين المغلوطة” , و” الضمانات الكاذبة” هي كل ما يعرض على شعب فلسطين ومقاومته , منذ كتابة دولوز لهذه المقالة في سياق مختلف, إلى اليوم, إذ يتم فقط تجديدها وتحيينها , وبيان ذلك ما يجري ترويجه في غمرة التطبيع من قول وإدعاء بأن التحولات الجيواستراتيجة لعالم اليوم ” المعولم”,غيرت “براديغم” الصراعات الدولية , وضمنها الصراع العربي الإسرائيلي , وبالتالي لابد من مراجعة تلك ” المبدئيات المتقادمة” التي أطرت الوعي الوطني والقومي !! و أيضا, مساءلة الجدوى من المقاومة المسلحة في مواجهة التوسعية الإسرائيلية في فلسطين المحتلة وفي لبنان والجولان وغيرها..
إن هذا المنطق التبريري للتطبيع يحجب حقيقتين ناصعتي الوضوح في خريطة الصراع العالمي القائم في أكثر من منطقة , في مقدمتها منطقة الصراع العربي الإسرائيلي , وهما :
_ إن الإستراتيجية الأمريكية والغربية في المنطقة العربية لم تتغير ,فمازالت هي هي منذ زرع الكيان الصهيوني فيها , لأن هذا الكيان أنشئ ” ليس من أجل اليهود” , بل أساسا, من أجل حماية المصالح الغربية في المنطقة العربية برمتها ., فعلى الرغم من كل التنازلات العربية في “اتفاقات السلام” الظالمة لشعب فلسطين, منذ كامب ديفيد إلى ” “الحلف الإبراهيمي” ,تؤكد الإدارة الأمريكية , جمهورية كانت أو ديمقراطية , في كل مناسبة انحيازها المطلق لدولة الاحتلال ودفاعها المستميت عن أمنها, ودعمها لها كقوة ضاربة في المنطقة. إنها استراتيجية ثابتة , تتماهى مع خيار ” سلام القوة ” الذي تسعى إليه دويلة الاحتلال برعاية أمريكية غربية لا تلقي بالا للمظالم والانتهاكات الصهيونية اليومية , ولا تقيم حسابا للنظام العربي الرسمي الذي تحول, كما وصفه الشاعر المغربي محمد بنيس إلى “مشهد طائفة من المتسولين الذين يقفون على باب رحمة إسرائيل – أمريكا,منهم من يحمل خزائن الذهب واللؤلؤ والماس , ومنهم من يمد يدين متضرعتين إلى أمريكا .. مشهد مفزع..” ( التطبيع وطريق الحرية , عن المرجع المسار إليه , ص 401).
_ ولم تتغير طبيعة الكيان الصهيوني, أحزابا ومجتمعا, بل ازداد توغلا في عنصريته, و في يمينيته المتطرفة, و أصوليته الدينية ,وعدوانيته المدمرة , ونزوعه التوسعي والهيمني الذي لم تنفع معه لا اتفاقات كامب ديفيد مع مصر,ولا معاهدة وادي عربة مع الأردن , ولا التطبيع السري مع عدد من الدول العربية , فكيف ستنفع معه إذن هذه السلسلة الجديدة من “التطبيعات” التي أخذت طابع ” حلف استراتيجي” , سيطلق يد إسرائيل في التنكيل بمقاومي وأسرى وشباب وأطفال ونساء الشعب الفلسطيني الصامد. كما سيخلق المزيد من التوترات و الانقسامات والتقاطبات المهددة للأمن والاستقرار في اكثر من منطقة, من المحيط إلى الخليج .
وبحجبهم لهتين الحقيقتين, يستخف دعاة التطبيع ومبرريه بأقوى رقم في معادلة الصراع ضد دولة الاحتلال ممثلا في المقاومة وفصائلها وأحزابها في فلسطين ومحيطها, ما يفضح مسعاهم , ويكشف عن تهافت ” خطابهم التفريطي في أهم حق من حقوق الشعوب المغتصبة أرضها وحقوقها, ألا وهو حق المقاومة بمختلف الأشكال من أجل استرجاع تلك الحقوق المسلوبة .كما يخفي أو يتجاهل ذلك المنطق عناصر الضعف والهشاشة داخل الكيان الصهيوني, الذي تعمقه المقاومة المتعددة الأشكال والجبهات التي دحضت خرافة “جيش إسرائيل الذي لا يقهر” , وأدخلت الكيان بكامله في أزمة سياسية وأخلاقية وهوياتية , أصبح معها مستوطنوه على استعداد نفسي للرحيل من حيث أتوا .
إن اختلال ميزان قوى الصراع مع الكيان الصهيوني مصدره وهن النظام العربي وانقساماته العنيفة وتخاذلاته المذلة , فهو ليس تفوقا ذاتيا , وعلى الذين يتغزلون في هذه الدويلة المصطنعة , ويعتبرونها “واحة للديمقراطية والتحديث “!, أن يفتحوا أعينهم أكثر على ما يجري داخلها من تمييز عنصري وانهيار أخلاقي ومعنوي وهشاشة مؤسسية واستغلال مشين للدين لتأبيد الاحتلال وطرد أصحاب الأرض والحق, بدل أن يكذبوا على أنفسهم, وعلى الديمقراطية والحداثة والتنوير .. الخ , فلا ديمقراطية ولاحرية ولا أمن و لا تقدم لدولة تقوم على أنقاض شعب بكامله , صامد في مقاومته رغم كل الانتكاسات والمعيقات والمؤامرات, ورغم كل التضحيات والآلام والدموع والدماء .. دفاعا عن الوجود والهوية والأرض والحقوق..
إن التضامن العالمي مع الشعب الفلسطيني إذ ن, يستدعي استحضار ذلك كله , مع التمسك بالثوابت المخضبة بدماء الشهداء على مدى أزيد من سبعة عقود , والتعامل, مع الكيان الصهيوني كدولة احتلال وعدوان, ومع القضية الفلسطينية كحركة تحرر وطني , ومقاومة مشروعة.. إن الحق والحقيقة يقتضيان ذلك, فالقضية الفلسطينية هي أيضا وأيضا, قضية ضمير عالمي وإنساني.