مقال رأي: أزمة أوكرانية أخرى في منطقة آسيا والمحيط الهادئ؟
كتب عالم السياسة الأمريكي المنتمي لمدرسة الواقعية الجديدة جون ميرشايمر في كتابه (مأساة سياسة القوى العظمى) أن “الولايات المتحدة اتبعت استراتيجية ‘التهرب من المسؤولية’، وظلت على الهامش بينما حملت الآخرين على تحمل عبء ردع المعتدين أو محاربتهم — حتى أنه لم يعد بإمكانها القيام بذلك بأمان”.
كشف الصراع الروسي الأوكراني للعالم عما تلعبه أمريكا من أدوار قذرة وحيل تنم عن “التهرب من المسؤولية” وتأتي على غرار الكتب المدرسية بهدف استخدام أوكرانيا لمواجهة روسيا واحتوائها.
وفي الوقت الذي لا تزال فيه الأزمة الأوكرانية تتكشف، ثمة مؤشرات مختلفة على أن العم سام يكرر السيناريو بأكمله واستراتيجية التوازن الخارجي في منطقة آسيا والمحيط الهادئ. لكن الهدف هذه المرة هو الصين.
في ظل مشهد جيوسياسي آخذ في التطور وميزان القوى المتغير في آسيا والذي يتميز بصعود الصين وتراجع نفوذ الولايات المتحدة، يبدو للولايات المتحدة أن وجود آسيا قوية ومستقرة لن تسمح بعد الآن لأمريكا بالاستيلاء على السلطة والثروة من المنطقة. ومن “محور التركيز نحو آسيا” إلى “استراتيجية المحيطين الهندي والهادئ”، أخذت الولايات المتحدة تتعاون مع حلفائها ودول المنطقة لاحتواء الصين، كما فعلت من خلال توسيع الناتو شرقا ضد روسيا.
ولكن نهج الحرب الباردة والمواجهة لن يؤدي سوى إلى نشوب صراعات وخلق معاناة للبلدان الآسيوية وشعوبها.
من الناحية الأمنية، عززت الولايات المتحدة وجودها العسكري في آسيا وحاولت تحويل الدول الآسيوية لتصبح بمثابة مواقعها الأمامية التي تطوق الصين. منذ نوفمبر 2011 عندما كشف الرئيس باراك أوباما آنذاك عن استراتيجية “محور التركيز نحو آسيا”، أجرت الولايات المتحدة مناورات عسكرية مشتركة من وقت لآخر مع دول المنطقة وأثارت مسألة بحر الصين الشرقي وبحر الصين الجنوبي لاستفزاز الصين.
كما نشرت الولايات المتحدة نظام دفاع منطقة الارتفاعات العالية الطرفية في كوريا الجنوبية، وأنشأت كواد وأوكوس، الأمر الذي أدى إلى جولة جديدة من سباق التسلح، وفاقم بشكل خطير التوتر والمواجهة في المنطقة. لا تنسوا تايوان، إحدى مقاطعات الصين، التي حولتها الولايات المتحدة إلى أداة سياسية وقلعة عسكرية لمواجهة الصين.
غير أنه كما فعلت في الأزمة الأوكرانية، فإن الولايات المتحدة تميل إلى تأجيج النيران دون التدخل بشكل مباشر لإخماد الحريق. وبمجرد تفجير برميل البارود، فإن شعوب آسيا هي التي ستعاني، وليس الأمريكيون على بعد 10 آلاف كم. ومن الناحية الاقتصادية، تقدر الدول الآسيوية التعاون الاقتصادي مع الصين على النحو الذي تعززه الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة، المعروفة باسم “أكبر منطقة تجارة حرة في العالم”، وذلك من بين أمور أخرى.
ولكن الولايات المتحدة تحاول إخراج الصين من السوق الإقليمية بمبادراتها الخاصة، أولا الشراكة عبر المحيط الهادئ التي وضعها أوباما، والآن الإطار الاقتصادي للمحيطين الهندي والهادئ الذي وضعه بايدن ويركز على تشكيل كتلة اقتصادية بقيادة الولايات المتحدة لا تشمل الصين.
وفي ظل افتقاره لأي قيمة مضافة أخرى، فإن إطار إدارة بايدن هذا أشبه بـ”عصا” أكثر من كونه “جزرة” لدول المنطقة التي تريد أن تزدهر وليس أن ت جبر على الانحياز إلى أحد الجانبين في المنافسة بين الولايات المتحدة والصين، ناهيك عن أن تصبح “رأس جسر” ضد الصين.
وكما قالت وزيرة الخارجية الإندونيسية ريتنو مارسودي “سيسأل الناس عما هو الهدف منها إذا لم تجلب استراتيجية المحيطين الهندي والهادئ منافع اقتصادية للشعب؟” عندما تقاتل الأفيال، فإن العشب هو الذي يعاني.
ويكتسب هذا القول المأثور أهمية متزايدة اليوم، لأنه يعكس شعورا بالقلق الواقعي لدى البلدان الآسيوية. إن شعوب آسيا، التي عانت قرونا من النهب والقمع الاستعماريين، تتوق إلى السلام والتعاون والتنمية، وليس مواجهة بين الكتل ولعبة محصلتها صفر. ولعل هذا هو الدرس الأكثر قيمة من الأزمة الأوكرانية بالنسبة لآسيا.