ما الذي تطلبه باريس من الرباط؟
من الواضح أن الطرفين الفرنسي والمغربي مجمعان ولو ضمنيا على شيء واحد وهو، أن يبقيا جميع خلافاتهما تحت السيطرة، وأن لا يجعلانها تخرج عن خط أو حد معين قد يضعهما مستقبلا في مواجهة دبلوماسية أو سياسية مباشرة.
حتى إن فهم الفرنسيون أواخر غشت الماضي أنهم كانوا هم المعنيين المباشرين بفقرة جاءت في خطاب العاهل المغربي وقال فيها: «إننا ننتظر من بعض الدول من شركاء المغرب التقليديين والجدد، التي تتبنى مواقف غير واضحة بخصوص مغربية الصحراء أن توضح مواقفها وتراجع مضمونها بشكل لا يقبل التأويل»، فإن ذلك لم يكن يعني مطلقا أنهم ظلوا، وعلى مدى شهور مكتوفي الأيدي، ولم يضعوا بدورهم ما يمكن أن يكون نوعا من الطلبات، أو الشروط التي سيكون ممكنا بالنسبة لهم وفقها أن تعود علاقتهم مع المغرب إلى الوضع الذي كانت عليه، على الاقل قبل مجيء ماكرون إلى الإليزيه.
غير أنه وفي أحدث مظهر على أن الأمور لم تعد تسير على الوجه المطلوب بين العاصمتين الفرنسية والمغربية، حتى في بعض المسائل التي قد يراها البعض شكلية أو رمزية، نشر منظمون لمعرض تجاري أقيم مؤخرا في مونبلييه خريطة للعالم ضمت أعلام مختلف الدول، دون أن يظهر من بينها علم المغرب، ووضعوا بالمقابل لونا أزرق على الصحراء التي يعتبرها المغاربة جزءا من ترابهم، قبل أن يتداركوا ذلك لاحقا.
من الواضح أن الطرفين الفرنسي والمغربي مجمعان ولو ضمنيا على شيء واحد وهو، أن يبقيا جميع خلافاتهما تحت السيطرة، بما لا يضعهما مستقبلا في مواجهة دبلوماسية أو سياسية مباشرة
وفي الوقت الذي ما زالت فيه ردود الفعل على ذلك مستمرة في صفحات التواصل الاجتماعي بوجه خاص، وما زالت معظم التأويلات غير الرسمية في الرباط تذهب إلى أن ذلك «التصرف» الذي وصفه البعض بالعبثي والصبياني، هو فصل جديد ينضاف إلى فصول الجفاء التي تتالت منذ مدة ليست بالقصيرة بين البلدين، فإن السؤال الذي قد يطرح نفسه هو، هل يستطيع ماكرون أن يصحح بشكل فعلي وعملي ذلك الخطأ؟ وهل لديه الرغبة الحقيقية في أن يلتفت إلى ذلك الجزء المفقود أو المغيب سهوا أو عمدا عن خريطة الشمال الافريقي، ويحل في الأيام القليلة التي بقيت من الشهر الحالي بالمغرب، موفيا بعهد كان قد قطعه على نفسه في غشت الماضي، بزيارة المملكة أواخر أكتوبر؟
المؤكد أن حصول شيء من ذلك القبيل سيعد عملا خارقا وغير معتاد بالمرة، إذ أنه يبدو، وفي ظل الوضع الحالي الذي تمر به العلاقات الفرنسية المغربية، ولعدة اعتبارات صعبا جدا، ومعقدا للغاية، بل إنه لن يكون من المبالغة القول بأنه قد يكون أيضا غير قابل أصلا للتنفيذ.
فالجميع يعلم أنه حتى مع بقاء قنوات الاتصال مفتوحة بين الجانبين، فإنها وعلى المستوى السياسي تكاد تكون مقطوعة أو مسدودة، إذ إن المسؤولين في البلدين كفوا ومنذ شهور عن تبادل الزيارات في ما بينهم، ولم تحصل أي اتصالات بين الرئيس الفرنسي والعاهل المغربي، رغم وجود الاخير في زيارة خاصة لباريس، بل إن السفيرين المعتمدين في العاصمتين المغربية والفرنسية غادرا، وفي فترات متقاربة مركزيهما بعد عودة هيلين لوغال الشهر الماضي إلى باريس، واستدعاء محمد بنشعبون الأسبوع الماضي إلى الرباط لتكليفه بمنصب اقتصادي، وبالتالي فإن فرضية زيارة الرئيس الفرنسي للدولة المغاربية تبقى وعلى المدى القريب على الأقل ضعيفة، بل ربما غير موجودة.
لكن ذلك لا يمنع كثيرين من التردد في أن يطلقوا على ما يحصل بين المغرب وفرنسا وصف الأزمة، والإصرار على التذكير بالطابع الاستراتيجي، وربما حتى الاستثنائي للعلاقة بين المغرب وفرنسا، واعتبار أن لا شيء يدعو للقلق، أو الانشغال عليها اليوم.
لكن هل أن كل علامات الفتور، وكل مظاهر البرود الملحوظة في الشهور الأخيرة بين المغاربة والفرنسيين ستكون بالفعل عابرة وظرفية ومحدودة في الأثر والزمن؟ أم هل أنها يمكن أن تتطور لاحقا وتتحول وبمرور الوقت إلى مشكل جوهري قد يطفو بسرعة على السطح، ولن يكون ممكنا لأحد حينها أن ينكره أو يحاول التقليل منه؟
من الواضح أن الطرفين الفرنسي والمغربي مجمعان ولو ضمنيا على شيء واحد وهو، أن يبقيا جميع خلافاتهما تحت السيطرة، وأن لا يجعلانها تخرج عن خط أو حد معين قد يضعهما مستقبلا في مواجهة دبلوماسية أو سياسية مباشرة.
فهما يعيان جيدا أنه لن يكون من مصلحتهما أن يرفع أي واحد منهما السقف عاليا ويصعّد أمام الاخر. والأربعاء الماضي فضل الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا هولاند أن يقول في الرباط، وفي تصريحات صحافية في معرض تعليقه على علاقات بلاده مع المغرب، إن تلك العلاقات «يجب أن تتحسن بالعمل على تجاوز سوء الفهم وتخطي هده المرحلة الصعبة»، قبل أن يضيف في رد على سؤال لموقع «هيسبريس» الإخباري أن «فرنسا في حاجة إلى المنطقة المغاربية، وأن لديها علاقات قوية مع دول المنطقة مثل المغرب».
لكن كيف وصلت الأمور بين البلدين إلى المرحلة التي أطلق عليها هولاند سوء الفهم؟ وفي عددها للشهر الحالي الذي خصصته للعلاقات الفرنسية المغاربية رأت مجلة «جون إفريك» أن واحدا من بين الأسباب التي قد تكون أدت إلى ذلك هو سوء اختيار الرئاسة الفرنسية للدبلوماسيين أو المستشارين المكلفين بملف المغرب، غير أنها أضافت أيضا ثلاثة عوامل أخرى وهي، الادعاءات التي لطالما نفتها الرباط بشدة باستخدامها برنامج بيغاسوس للتجسس على كبار المسؤولين الفرنسيين، وفي مقدمتهم الرئيس الفرنسي نفسه، وانزعاج باريس من التمدد الاقتصادي للرباط داخل القارة الافريقية، ومن قيامها بتنويع شراكاتها مع دول غربية أخرى، وحتى الانفتاح النسبي على روسيا والصين، بالإضافة إلى عدم حماس الفرنسيين للاستجابة للدعوات غير المباشرة التي وجهها المغاربة لهم بضرورة قطع خطوات إضافية أخرى نحو تأكيد موقفهم السابق في دعم مقترح الحكم الذاتي للصحراء.
لكن ما الذي يمكن أن يعنيه ذلك عمليا؟ وما الذي جعل فرنسا تظهر وبوضوح تام أن لديها مشكلا ما مع المغرب؟ وهل أن الفتور الذي يميز الآن تعاملها مع واحد من أكبر شركائها التقليديين في القارة الافريقية له مبررات أخرى غير التي ذكرتها «جون إفريك»، أو حتى غيرها من وسائل الإعلام الأخرى؟ سيكون من الصعب جدا أن يكون تحسن العلاقة مع الجزائر مثلا كما قد يرى البعض هو السبب المباشر وراء ما قد يبدو اليوم تحولا بطيئا، لكن ملموسا في العلاقات بين العاصمتين.
فمهما بلغ حجم التأثير، أو حتى الإغراء الذي قد يمثله الغاز الجزائري بالنسبة للفرنسيين، فإنه لن يدفعهم إلى تجاهل المصالح الضخمة، أو الروابط العميقة التي تشدهم إلى المغاربة. كما أنه سيكون من غير المعقول بالمرة أن تكون الأنباء التي جرى تداولها حول استخدام المغرب برنامجا للتجسس على بعض المسؤولين الفرنسيين وبغض النظر عن صحتها أم لا، هي العامل الأساسي الذي دفعهم إلى محاولة أخذ مسافة ما من الرباط.
لكن مفتاح التحول النوعي في علاقتهما قد يكون إدراك باريس لأبعاد تصريح وزير الخارجية المغربي في عز الأزمة مع إسبانيا، الذي قال فيه إن مغرب اليوم ليس مغرب الأمس، بما يعني ضمنيا رغبته في إعادة تشكيل توجهاته وتحالفاته الإقليمية والدولية المقبلة. ومن هنا فإن المطالب الفرنسية تبدو واضحة للغاية، مثلما أن الإصرار المغربي على رفضها يبدو جليا ولا غبار عليه.