الناقد السينمائي محمد بكريم يكتب: من المدينة الى الجبل سينما تبحث عن ذاتها
استضافت الدورة الأخيرة لمعرض الكتاب لقاءا من مبادرة الأستاذ عثمان أشقرا حول تيمة “من السينما الى الجبل”.
وكان العنوان الموجه لمساهمتي هو “الأطلس سينمائيا: القريب والبعيد” وهي عبارة عن مجموعة من النقط/ شذرات أفكار وعناصر من أجل تصور مستقبلي لتفكير السينما. ولتأطير مساهمتي المتواضعة ارتأيت أن أسجل بداية تنويها باسمين كبيرين لا يمكن أن لا يحضرا كأفق معرفي وانساني في لقاء حول الجبل…حول السينما. اقصد الرفيق الراحل بول باسكون “رائد علم الاجتماع القروي” والأستاذ الجامعي الباحث الأنثروبولوجي والسينيفيلي حسن رشيق. وعنوان مداخلتي يحيل الى كتابه الهام “القريب والبعيد، قرن من الانثروبولوجيا في المغرب”.
كما ارتايت ثانية أن أتوقف عند التيمة المقترحة “السينما: من المدينة الى الجبل” لمساءلة الحمولة المعرفية التي تقترحها هذه التركيبة اللغوية التي تنتقل بنا من مرحلة سادت فيها حروف العطف ممثلة بواو العطف في تقديم الندوات حول السينما، من قبيل السينما والأدب، السينما والتاريخ، السينما والمجتمع ، السينما والجبل (مهرجان في تونس)…بل السينما والمجتمع المدني.
وكان الراحل نورالدين الصايل يتوق عند “الواو” هاته لمساءلة العلاقة بين المعطوف والمعطوف عليه من زاوية التبعية أو الاستقلال. تيمة اللقاء تنقلنا من حروف العطف الى حروف الجر “من المدينة الى الجبل” وتفتح إمكانية براديكم جديد موازة مع البراديكم السابق ولا تلغيه.
خاصة مع حرف الجر “الى” بمعنى انتهاء الغاية الزمانية و/ او المكانية. ولم أتردد فيي استحضار الآية الكريمة “سبحان الذي أسري بعبده ليلا من المسجد الحرام الى المسجد الأقصى”. وذلك في أفق أن نفهم عودة السينما الى الجبل كمحطة معرفية وليس فقط اختيار انتاجي يمليه السيناريو أو الإمكانيات المادية.
عودة/توجه بحمولة ثقافية بل في افق قطيعة أبستمولوجيا من أجل وعي جديد حول السينما التي نريد بجذور ثقافية تؤسس أيضا لخطاب حول السينما متجذر في واقعه الثقافي ومحيطه المهني.
سؤال ذي صبغة استراتيجية اليوم الذي تعرف فيه السينما المغربية نوع من الطفرة السينمائية رافعتها جيل موهوب من السينمائيين. جيل يبقى على كل حال رهينة نمط انتاج تتحكم فيه منظومة صناعة الفرجة العالمية عبر وسائط متعددة، من أبرزها: الحضور في المهرجانات، شبابيك التمويل، ورشات تطوير المشاريع …شبكة عنكبوتية تلتقط وفق منهجية محكمة كل المواهب القادمة من هامشها لتعيد صياغتها – فورماتج (نموذج عباس كياروستامي الذي مات منفيا ثقافيا).
ولقد أفرز ذلك نوع من السينما لم أتردد في وصفها بسينما “الاستشراق الجديد”. مقولة اثارت حفيظة البعض…لأن منظومة صناعة الفرجة العالمية فرضت أيضا نوعا من الخطاب لتوجيه تلقي السينما.
الأدوات والمفاهيم التي نشتغل بها حول سينمانا غير مطابقة للسينما التي نريد.
هناك نوع من الوعي الشقي (عبد الكبير خطيبي) يخترق الخطاب حول السينما ويستدعي عدة مراجعات وعلى مستويات مختلفة.
ولعل التفكير في علاقة السينما بفضائها الأصلي احدى المداخل المفيدة بهذا الصدد. ننتمي الى قارة شابة سينمائيا. افريقيا هي أخر قارة جاءت الى السينما، ولكنها شكلت منذ ميلاد السينماتوغراف (1895) مجالا/فضاءا خصبا لإنتاج صور الاخر الموجهة للأخر يستثمر فيها خياله وتمثلاثه للأخر.
وعند استرجاع السيادة الوطنية كانت من مهام السينمائيين الافارقة إعادة تملك الفضاء الوطني وتحريره من الصور النمطية.
فجاءت الأفلام الأولى متأثرة بهذا المشروع وأنتجت كتابة جمالية يطغى فيها الوصف على السرد. والسينما المغربية جزء من هذه الحالة التي استمرت لمدة. هي مرحلة البدايات (الستينات والسبعينات) بشخوص منشطرة قاسمها المشترك علاقة متوترة مع فضائها. تحركها رغبة جامحة في الرحيل.
أسوق كنموذج شخصية عبيقة (محمد الحبشي) في فيلم رماد الزريبة (1976) وجل أفلام الهجرة القروية. وفرضيتي في هذا الاتجاه هي أنه يمكن قراءة تطور السينما المغربية من زاوية حضور الفضاء على المستوى الدرامي وعلى المستوى السيميائي.
ولفترة طويلة نسبيا ستظل هذه السينما حبيسة المعادلة سينما المدينة / سينما البادية أو الثنائية الخلدونية العمران المديني / العمران البدوي.
والتحول الكبير الذي ستعرفه السينما المغربية في بداية التسعينات والتقائها أخيرا بجمهورها بشكل نهائي جاء نتيجة ميلها للعمران المديني واستقرار الحكاية الفيلمية في فضاء منسجم واسترجاع السرد حقه امام الوصف.
وفيلم حب في الدار البيضاء (عبد القادر لقطع، 1991) واكتساحه لشباك التذاكر جاء نتيجة تقاطع ما هو سوسيولوجي (شخوص من البرجوازية الصغيرة التي تشبه جمهور القاعات السينمائية) مع ما هو درامي وجمالي (استقرار المحكي في المدينة، ممثلين شباب، مواضيع مستوحاة من الواقع المعقد بفعل تحديات الحداثة واصطدام الذاتي مع الجماعي).
وعندما يطرح اليوم النقاش بصيغة ثنائية مجددة للسينما من المدينة الى الجبل فربما هناك تحول جديد تدل عليه بعض المؤشرات: ازمة البطل المديني (سينما هشام لعسري)، اختناق الفضاء المديني وانغلاقه والرغبة في فضاءات جديدة (الثلث الخالي لفوزي بنسعيدي) … والانتصار الجماهيري للكوميدية كنوع من الهجرة في الخيال