الناقد السينمائي محمد بكريم يكتب: سهيل بنبركة في فيلمين ألف يد ويد و من رمال ونار +فيديوهات
كيف يمكن تصوير” الناس لي تحت”؟ الشعب العامل وعموم الكادحين؟ أولئك الذين لا صوت لهم ولا صور؟ لقد شكل ذلك (المقصود هنا العمل اليدوي) واحدة من الموضوعات الكبرى التي أعيد النظر فيها وتم تناولها بشكل إشكالي من قبل السينما. أي موضوع تمثلات سينمائية، وقد أثار في هذا السياق نقاشات عميقة، هي تركيب بين ما هو فني وما هو سياسي. وأثمر ذلك عناوين بارزة مثل الفيلم-الرمز لهذه السينما، “الأزمنة الحديثة” لتشارلي شابلن.
في الحالة المغربية، بشكل عام، سأقول إن “العامل” كجسم اجتماعي هو فئة غير ممثلة بشكل كافٍ في السينما؛ في السينما السردية السائدة. غياب/تغييب يجعل من فيلم “ألف يد ويد” لسهيل بنبركة (1972) حدثا بارزا.
إنه فيلمه الطويل الأول الذي يفتح الطريق أمام مسيرة غنية ومهمة في عالم السينما كأحد الأسماء البارزة في هذا القطاع، سواء كصانع أفلام أو منتج أو مستثمر، وأيضًا كمسؤول عن السينما، شغل منصب مدير المركز السينمائي المغربي خلال فترة انتقالية هامة.
ألف يد ويد تحفة (بالنسبة لي من أحسن عشرة أفلام في تاريخ السينما المغربية) سرعان ما أسرت جمهور عشاق السينما الذين كانوا في انتظار سينما وطنية جديدة وملتزمة بروح السبعينيات.
كان فيلم بنبركة سيثير بذلك نقاشات حادة بسبب أصالة نهجه الشامل الذي جذب الانتباه بينما أثار تساؤلات تربط بين السياسة والاختيارات الجمالية.
لأن الفيلم يعبر عن رسالة واضحة بشكل متميز وبليغ، وهو مدعوم بخيارات واضحة على مستوى كتابته السينمائية. يمكنني تلخيص هذه الخطوة الأولية لمؤلف حقيقي من خلال الطموح إلى سينما متجذرة في واقع محدد ولكنها في الوقت نفسه منفتحة على العالمي. بعبارة أخرى: إشكالية محددة، وهي الاستغلال الفاضح للطبقة العاملة في قطاع النسيج ضمن مقاربة سينمائية تهدف إلى العالمية.
لتحقيق ذلك، نجد هناك مزيجًا يجمع بين ما سمي في فرنسا “بحكي يساري” (عالم شبه ثنائي الأبعاد) وتأثير الواقعية الإيطالية التي تأثر بها المخرج بالتأكيد خلال تدريبه وعمله في روما.
قوة الفيلم تكمن في أن هذه الخيارات المختلفة، سواء كانت موضوعية أو فنية، تتداخل في نهج متسق يجعل منه، في النهاية، أحد الأفلام الكبرى في سينماتنا، المعترف بها والمُعزَّزة بالعديد من الجوائز المرموقة.
يفتتح الفيلم بوضع المتلقي في خضم الأحداث مع مشاهد لسيارة تعبر المدينة الحمراء، بداخل السيارة رجلان بملامح رسمية يحيطان برجل ثالث يبدو مصابًا.
مشهد افتتاحي يضعنا بالفعل في أجواء جنس فيلمي “ثريلير” السياسي، وسنفهم بسرعة أن القصد هو رجلي شرطة يعتقلان شاب عامل في صباغة الصوف (سعيد) بعد ان عبر عن غضبه وتمرده . وهو الابن البكر لموحى، الصباغ الذي ينقل يدويًا حزمًا من خيوط الصوف ليمنحها ألوانًا مختلفة.
تشتغل هذه النهاية المأساوية التي يشير إليها مشهد الافتتاح بشكل مزدوج. أولاً على مستوى الدلالة من خلال اعتقال سعيد (المستوى الدلالي) وبالتوازي على مستوى الإشارة، من خلال تكرار صور الجدران التي تخلق أجواء من الانغلاق بما يعني أن تطور الحكاية سيتم في عالم مغلق على نفسه، حيث يبقى المخرج الوحيد، والأفق الوحيد هو اما الجنون (الشخصية الأولى التي تتحدث في الفيلم هي “مجنون” القرية)، أوالأسطورة الشعبية (الرحلة التطهيرية لعائلة موحى نحو الموسم) أو العنف الطبقي.
ستكون الدراماتورجيا مشبعة بهذه الأجواء مع إيقاع شبه وثائقي عندما يتعلق الأمر، على سبيل المثال، بتصوير بيئة الصباغين. هنا، في الواقع، يتزامن السرد والحكي: حيث تتوافق مدة اللقطات بشكل وثيق مع حركات الحرفيين والعمال وتبني ايقاعهم البطيء. العنصر التعبيري الآخر هو الاشتغال على الصورة مع تطور استخدام الألوان السائدة وفقًا لتقدم الدراما، حيث تنتقل مع تطور الصراع الدراميمن الألوان الفاتحة والدافئة إلى الألوان الداكنة والباردة.
في المشهد المعاكس / خارج المجال، يتم عرض عالم آخر بطقوس أخرى. انه عالم ارباب العمل، عالم البرجوازية. مشاهد تركيبية في ثنائية قطبية في عالم مضاد لعالم الشغيلة. وخذمة لذلك يتم توظيف ذكي لعناصر درامية متنوعة: اللغة المستعملة / الشخصيات الأجنبية /البيئة العامة … لإبراز هذه الفجوة. تُلتقط هذه الطبقة الاجتماعية الهجينة، من الناحية السوسيولوجية والثقافية، من خلال عاداتها وطقوسها التي تكشف عن غموض العلاقات واصطناعيتها.
يبدو لي أن الفيلم يعمل وفق منطق “إعادة التحويل”؛ على غرار توظيف العنوان “ألف يد ويد ” الذي يستعيد عنوانًا أسطوريًا من الأدب، “ألف ليلة وليلة”، ليعيد توجيهه لخدمة سرد آخر، وهو سرد الألف يد التي تعمل ويد واحدة تستفيد. كما أن الفيلم يعيد النظر في الصور الغرائبية/اكزوتيك لبطاقة البريد (كارط بوسطال) المستحضرة في الجدران والسجاد والألوان… ليعيد انتاجها ويقدم لنا الوجه الآخر للديكور.
في المجمل، يقدم سهيل بنبركة عمل فني يتجاوز المرئي ليسائل غير المرئي، والمسكوت عنه حول عنف العلاقات الاجتماعية كانعكاس لعلاقات الإنتاج الطبقية، بما في ذلك العنف في شكله اللامادي: العنف الرمزي (الثقافة السائدة لدى الأوساط الشعبية)
– الجاسوس القادم من الشمال
إن مجمل أعمال سهيل بن بركة تشهد على تماسك حقيقي في بناء الحكايات التي تحملها شخصيات تسمح له بإظهار تصوره للسينما والتعبير من خلالها عن فلسفة معينة للفن والحياة. إنها شخصيات خيالية بالتأكيد، لكنها ذات شحنة دلالية ورمزية قوية لأنها متجذرة في التاريخ والعلاقات الاجتماعية الصريحة.
هناك نمط واضح يسير في أفلامه الروائية الطويلة الثمانية: شخصيات من التاريخ القريب، من الدراما المعاصرة ذات الدلالة السياسية القوية، كما في فيلم” الف يد ويد“(1972)،)، و” حرب البترول لن تقع“ (1974)، و”أموك“ (1982)، وميل قوي للشخصيات التاريخية، لا سيما في ”فرسان االمجد“ (1990) و”عشاق موغادور“ (2002). ويتأكد هذا الاتجاه في عمله الكبير “من رمال ونار“(2019).
يؤكد هذا الفيلم الروائي الطويل الثامن الاتجاه السائد في أعمال بن بركة، سواء من حيث الموضوع (الشخصيات التاريخية) أو من حيث الخيارات الإخراجية والتصور السينمائي. وهو مفهوم يمكن أن نلخصه في غواية الكوني. يُجسد سهيل بن بركة بوضوح طموحًا عالميًا للسينما المغربية: قصص مكتوبة وفقًا لقواعد الدراماتورجيا ومستوحاة من مبادئ التراجيديا؛ تُنقل إلى السينما، ويحملها طاقم عمل كبير (تقني وفني).
إنها سينما تلتقط طفرات التاريخ في المادة الفيلمية وفي الترتيب البصري للسرد: التاريخ عبر أحداث كبرى و في أشكاله المذهلة (انظر المتتالية الرائعة عند تصويره لانتفاضة مدريد، على سبيل المثال) أو القصة الحميمة للمصائر المحطمة (انظر دموع ميليكي عشية اتخاذ قرار مصيري بشأن العلاقة بعلي بك).
إن فيلم من رمال ونار تحمله شخصيتين تراجيديتين و هو أساسا فيلم تاريخي يخاطبنا عن التاريخ كنموذج لقراءة الحاضر. في لحظات معينة من الأزمة والحرب والصدمة ومساءلة الذات الجماعية، يدافع فيلم بن بركة عن فكرة أن الشكل السينمائي هو أحد أفضل الأدلة لمعرفة التاريخ (المغرب في مواجهة الاطماع الإمبريالية في بداية القرن التاسع عشر)، مثلما يجعل من الممكن فهم حالة معينة من المجتمع والرغبات التي تحرك مخيلته.
ألا يمكن أن يساعدنا تحوّل الليدي هاستر ستانهوب على فهم الرغبة في المطلق (الصوفي غالبًا) التي تدفع أطياف من شباب الغرب وضاحية مدنه الكبرى إلى الالتحاق بسراب الشرق للحلم بمملكة خيالية (داعش)؟ باختصار، تكشف لنا بنية الحكاية عبر اختيارات جمالية بليغة عن دوافع اجتماعية وحتى نفسية تكون أحيانًا كامنة أو مكبوتة وغالبًا ما تكون مبهمة.
والفيلم تعبير بشكل ما عن خيبة الأمل، والمشهد الافتتاحي يوحي بذلك منذ البداية بلقطاته التي تظهر فيها الرمال والأطلال، مذكراً بأن الطموحات السياسية الكبرى أو الصوفية/الذاتية مثلها مثل الإمبراطوريات تولد مثل الأحلام، وتعيش على النار (والدم) وتموت في الرمال.