الرئسيةرأي/ كرونيك

هل تستحق غزة هذه الإنسانية الشاهدة الخرساء؟

بقلم مصطفى مفتاح

سؤالٌ كاشفٌ فاضحٌ كالعذاب ورائحةِ الجُثَث. أهذا ما تبقّى من الإنسانية: كَفَنٌ مُضَرَّجٌ بالدماءِ والحريقُ يلْتَهِمُ سيارات الإسعاف وأشلاءٌ أو أحشاءٌ أو قِطعٌ من جَماجِمِ الأطفال؟ أهذا ما تبقّى كي نشاهدَ ونَخرِسَ مِن كلِّ دقيقةٍ تَهزِمُنا في غزة وفلسطين؟

هل نستحقُّ العيشَ بعدَ الآن؟ وفي الحقيقة، هلْ هُناكَ عيشٌ بعد أن نُكِبْنا في إنسانيتنا، كُلُّنا، شهوداً أو زعماءً أو قوماً؟ ألسنا في الحقيقةِ، وَنحنُ لا نُحسِنُ سِوى تِعْدادِ أصنافِ الضحايا وحجمِ الدّمار، إنسانيةً بائدةٌ كلَّ دقيقةٍ إنسانِيَتُها؟

ما نفعُ كلِّ هذا الأسى؟ ما نفعُ هذا الركامِ المُنَضَّدِ من الكلام، أنا الشريكُ شِئتُ أم أبَيْتُ في الجريمة؟

ما الفرقُ بيني حين أنتحب وبيني في نفسِ الوقتِ، حين أُعَزّي نبيذاً أو نميمةً أو تحليلاً بارع التنميق؟

الفرق واضحٌ كالموتْ، موتُ إنسانيتي. أم هل أنتظرُ أن يُصْدِرَ الأمريكان قراراً مُسْتعْجَلَ التنفيذ بأن أُعَوِّضَ الجيشَ الإسرائيلي والصناعاتِ الحربية الغربية وكُبْرياتِ شركات التكنولوجبا الحديثة على كل مصاريفِ الحربِ ضِدَّ الأطفال والإسعاف والمستشفيات وكل الحياةِ في غزة وجنين وطولكرم ونابلس ورام الله والضاحية الجنوبية وشمال وجنوب الليطاني ودرعا وحماة ومطار دمشق والآتي من جبهات هذه الحربِ الفظيعة؟ سيُطالِبونَني بالسّدادِ، لأنني أُشاركُ بشَهادتي الخرساء، أنا البائدُ وسطَ الأقوامِ البائدة.

وكأننا نَسْتَأنِسُ بالهمجية والدمار، فنَمْسَخُها مصطلحاتٍ وأوصافاً وأرقاماً، مجَرّدَةً من رائحةِ الرصاصِ والفَرقَعاتِ والغازاتِ السامَّة، وكلِّ العنفِ اللاإنساني الذي تحْمِلُهُ وترْمِزُ إليه، ونَنْبَهِرُ بهذا الصمود الأسطوري الذي يَتَسامى عالياً مِنْ بينِ الأنقاضِ والقِيامةُ جاريةٌ نهاراً جِهاراً وتحتَ وابلِ القنابلِ الضوئيةِ ليلاً، نُتَرْجِمُهُ رومانسيةً مِثاليةً جميلةً، خاليةً من بقعِ الدمِ المُتَخثِّرِ والذُّبابِ والكلابِ الضالَّةِ والخوفِ والهلعِ والبكاءِ والمخاطِ، فَنَنْسى أنَّنا في كلِّ ثانيةٍ تموتُ إنْسانِيَتُنا عِرْقا عِرْقاً.

وكأَنّنا نَكْتفي ببعضِ الألَمِ المُتَضامِنِ ثُمَّ نمضي لِحالِ سبيلِنا لأنّنا كالأمواتِ لا يُعَزُّونَ ولا يُعَزَّوْنْ. ولأن القاتلَ مَيِّتَةٌ روحُهُ وإنسانِيَتُهُ، ولأنَّ الشاهدَ العاجزَ لا يُحسِنُ سوى بَهلَوانِياتِ الفذلكة!

ولأننا شهودٌ عاجزونَ والموتُ انْقَرَضَ والقيامةُ انْبَعثَتْ مِنَ الأساطيرِ القديمةِ، والبكاءُ كمالياتٌ كالأكفانِ البيضاءِ-الدامية، نتَشَبَّثُ بكلِّ أَلواحِ الغَرَقِ المُتلاطِمَةِ في الأخبارِ والقنواتِ والهواتفِ الذَّكيّةِ، ونغْرَقُ في توابيتِ الشِّعار.

وأسألُ والمرارةُ اسْتُنْفِذَتْ، ما هوَ الصّمتُ الرهيب؟ هلْ هُوَ صَمتُنا الأَخَوي الذي يَرْطِنُ بِلُغَةِ الضّادِ والفرقانِ أمْ صمتُ “المجتمع الدولي” الذي كان وهماً ثم صارَ ولا يزال؟

وأسألُ وهلْ يهمُّ الشاةَ بلاغةٌ أو فصاحةُ الثُّغاءِ، بَعْدَ ذَبْحِها، من الوَريدِ إلى المحيطِ إلى الخليجِ واهِبِ النفطِ والرّدَى الرَّذِيلِ والخيانة؟

سيأتي مؤرخون آخرون يُحصونَ موتانا هناكَ، أطفالاً ومُسْعِفينَ وصحفيين، وموتانا هنا، شهوداً عاجزينَ إلّا مِن بعضِ الدُّعاءِ-البُكاءِ والصَّدَأْ.

سيأتي علماءُ آثارٍ في المستقبل، لِيَفْحصوا ما تبقّى من مِلْحِ دموعِنا. ثُمَّ سينبري علماءُ الاقتصادِ والتكنولوجيا لِيَحْسِبوا نِسْبَةَ مساهمةِ غزة والضفة ولبنان وسورية في تَطوُّرِ الصناعاتِ الإلكترونية والذكاءِ الاصطناعي وكلِّ أسْلِحةِ المسْتَقْبَلِ الرحيمةِ بالغزاةِ المعتدين..

ونحن نخرجُ من المُراهَقَةِ، كان زادُنا اللامتناهي هُوَ الأَمَلُ الهائِلُ أنَّ أُفْقَ الإنسانيّةِ القريبِ زاهرٌ وأن التغييرَ قريبٌ بأنوارِهِ وأزهارِهِ والخيرِ والحُبِّ والإخاء، ونحنُ في عمرِنا اليومَ، يَلُفُّنا ظلامٌ مُطْبِقٌ يسُدُّ كلَّ المَسامِّ ويُقْفِلُ الأفُقَ والمَدى. يَلُفُّنا ويَدفِنُنا اليأسُ القاتِمُ الذي يبدو هُو الوحيدُ الباقي.

بشريةٌ استُبيحَتْ إنسانيَتُها. نستحقُّ اليومَ والقيامةُ قائمةٌ أن يقال عنا أننا قومٌ بائدة زائدةٌ خرساء. نعم، نستحقّْ

أريدُ أن أعرف: هل جُثَّةُ طِفْلٍ بلا رأسٍ أصعبُ أو رأسُ طفلٍ بلا جُثةٍ أقسى،  وماذا عن الأشلاءِ المتطايرة، وقدرتِنا على الاحتمالِ والإحْصائياتِ والإنْشاءِ المَشْكولِ المُقَفّى، أو هي النهاية؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى