الرئسيةرأي/ كرونيك

آخر مرافعة قبل أن تقضم الجرافات فضاء الحقيقة وقدر الذاكرة

في حي الأحباس بدرب السلطان ، ودار الباشا بشارع فيكتور هيجو ( صاحب رواية البؤساء ) وفي قاعة محكمةٍ قديمة ذات نوافذ مكسورة، يتردد فيها صدى الماضي أكثر من صوت القضاة، رائحة الملفات القديمة قدم زمن الجمر والهدم والفقد؛ يقف المحامي و صوته يرتجف لا خوفًا بل امتلاءً :
سيدي الرئيس،
حضرات القضاة المستشارين

يا أبناء هذا الركن من المدينة العتيقة الذي كان يومًا يُنادى عليها بـأسماء أحيائها، درب الإنجليز، ملاح اليهود والبحيرة القديمة والجديدة، درب بوطويل ودرب الطليان ودرب بنحمان ودرب المعيزي ودرب الرماد ودرب اسماعيل، وكان لكل درب او زقاق قصص وحكايات وذاكرة وله ضحكة تتردد سرديات في الأزقة كل صباح…

أقف أمامكم اليوم لا لأترافع عن شخصٍ أو جماعة، بل عن زمنٍ بأكمله ، أقف لا دفاعًا عن ماضٍ فقط، بل عن المستقبل الذي يُولد يتيمًا، لأن من أنجبه… قد دُفن.

سيدي الرئيس،
لقد قُتلت المدينة. نعم، قُتلت. لا بخنجر، ولا برصاصة، بل بجرافةٍ تحمل رخصة رسمية، وبقرارات وُقّعت في مكاتب باردة، لا تعرف حرارة المراجل التي كنا نغلي فيها طفولةً وشغفًا.
قُتلت حين هُدمت الدور التي لم تكن فقط حجارة، بل كتبًا مفتوحةً في وجه المارة، حكاياتٍ معلقةً على جدرانٍ تشهد، وتبكي.
قُتلت حين غاب المثقف، أو غُيّب.
حين صمت الذين يعرفون الحقيقة.
حين فُصلت الذاكرة عن السياسة كما تُفصل الروح عن الجسد في غرف الإنعاش.

سيدي الرئيس،
القضية التي بين أيديكم ليست مجرد عقار تغيّرت ملكيته، بل هويةٌ تم خنقها.
اسمٌ مُسح من كناش الحالة المدنية دفتر تسجيل الولادات والوفيات )
مدينةٌ أصبحت “مشروعًا استثماريًا”، بلا لهجة، بلا طعم، بلا شرفة يُحكى فيها التاريخ.

أيها السادة القضاة،

أعرف أنكم لستم بغرباء عن هذه الأرض. أن طفولتكم، كطفولتي، كانت تنبت بين الحجارة التي هُدمت، وتلعب في الزقاق الذي صار اليوم موقف سيارات مقابل أداء
أن جداتكم، مثلي، كنّ يحكين الحكايات ذاتها، ويزرعن الريحان والغنباز على النوافذ ذاتها.
لكنني، اليوم، لا أطلب إدانة شخص.
ولا أطلب تعويضًا عن ما لا يُعوّض.
كل ما أطلبه… هو شهادة.
أن نعترف، ولو مرة، أن الجريمة وقعت.
أن هناك من ذبّح الذاكرة، وسلّم مفاتيح المدينة لمن لا يعرفون أسماء أزقتها ، المحاطة سابقا بدفء باب الكبير وشارع الشهيد الحنصالي ومولاي الطاهر العلوي وبوردو وزنقة كلميمة ومولاي يوسف ومرصعة بقبة الضيعة البيضاء التي ضاعت بقرار من الصدر الأعظم …
(يصمت المحامي قليلاً، يتنفس كمن أنهكه البكاء)

لكن…وبعد أن تبرع كل حاضر بدمعة دافئة لصالح المشهد ،

(القاضي يطوي الملف ثم ينهض وينطق بالحكم):
“بعد المداولة، وبعد الاستماع للمرافعة…ودفوعات الضمير المستتر
تحكم المحكمة بعدم الاختصاص للبتّ في جناية قتل الذاكرة.
فالعدالة، يا سادة، لا سلطة لها على ما تم إعدامه في الظلّ،
ولا تملك محكمة الدنيا مفاتيح ما دُفن في القلوب.”

(صمت طويل، ثم تنهض القاعة… لا تصفيق، بل بكاء مكتوم، كأن الجميع فهم أن الحكم صدر على الجميع
…. و بعد لحظات من النطق بالحكم يسود الصمت ثقيلا ، و تظل العيون مسمرة على منصة الحكم ؛ فجأة، يُفتح باب خلفي للقاعة… يدخل موظف ببدلة قاتمة، خطواته رتيبة، صدره منتفخ كما لو كان يحمل سلاحًا أو أوامر لا تقبل النقاش ؛ يقترب بهدوء من القاضي، يسلمه ظرفًا مشمّعًا، ثم يقف جانبًا، كمن أنهى مهمته وألغى وجوده .
يتردد القاضي يحدق في الظرف، يقطب حاجبيه:

هذا… ليس وقت الرسائل.
ينظر إليه الموظف دون أن ينطق. القاضي يفتح الظرف، يقرأ بصمت، وجهه يتغير. لا يقرأ النص بصوت عالٍ، بل يناوله لممثل الحق العام، كأن الكلمات أثقل من أن تخرج من فمه

يتلو ممثل الحق العام ببرود بيروقراطي ممزوج بسخرية غير مرئية : “وردنا قرار إداري مستعجل،
بناءً على تقارير تقنية وملاحظات لجن المراقبة،
تقرّر:
هدم بناية المحكمة فورًا،
لكونها صارت آيلة للسقوط،
بسبب استقالة المرافعات المزلزلة للبواطل،
وانهيار أعمدة العدالة تحت وطأة الصمت.”
تتسع عيون الحاضرين، بعضهم يضحك بمرارة، آخرون يتهامسون، بينما المحامي ينظر حوله كمن يبحث عن جدار يسنده ؛ فلا يجد سوى ذاكرته وقيدوم المحامين ينزع بذلته .
وبصوت منخفض كأنه يحدث نفسه يهمس للقيدوم :
حتى قاعة المحكمة… لم تصمد !
كانت القاعة تشبهنا: متشققة، مثقلة بالحكايات، مهترئة من الداخل… لكنها صامدة.
وحين تكلمنا، سقطت.

القاضي يخلع الجبة، يضعها على المنصة كمن يسلّم مفاتيح وطن قد سُلِب. يقف، ينظر للمحامي :
“كلنا أبناء هذا الحي… لكننا لم نكن حاضرين بما يكفي لنحميه.”

ينسحب المحامي من القاعة وصوت الحفر والهدم يتناهى إلى أذنه اليمنى على وقع طرقات جرافة مستوردة ، بينما تتردد جملة البرقية في الخلفية، كصدى بعيد: “هدم… بسبب استقالة المرافعات المزلزلة للبواطل…” .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى