الرئسيةرأي/ كرونيك

في مسيرة حزبِِ مَالَ ثم اتكأ على بنكيران

بقلم الناشط الحقوقي والإعلامي: رشيد البلغيثي

عرف المشهد الحزبي المغربي خلال العقود الأخيرة تجربة متميزة مع صعود حزب العدالة والتنمية، الذي تحول تدريجيًا من قوة معارضة محدودة إلى مساعد في إدارة الشأن الحكومي. غير أن مسار الحزب، كما أظهرته التجربة التاريخية، اتسم بتناقضات بنيوية عميقة في طبيعة شرعيته وأدائه السياسي. تناقضات كثفها المؤتمر الأخير وعززتها نتيجة صناديقه.

منذ بداياته، لم يقدم حزب العدالة والتنمية نفسه بوصفه مشروعا يسعى إلى تغيير بنية السلطوية، بل كـ”حلّ للنظام”، قوة إصلاحية معتدلة تضمن الاستقرار وتؤطر القواعد الاجتماعية داخل المنظومة القائمة دون زيادة او نقصان.

في هذا الإطار، كانت رسالته موجّهة أساسا إلى الملك، مؤكدًا التزامه بالقواعد المرعية وضمانه للسلم الاجتماعي. (ندعوا الناس إلى سؤال الوهاب الحكيم حتى لا يسائلوا الحاكم).

برزت براغماتية الحزب السياسية بوضوح، والتي لامست الانتهازية، في موقفه من حركة 20 فبراير. رغم أن الحركة الاجتماعية، التي طالبت بإصلاحات سياسية ودستورية راديكالية، شكلت المناخ العام الذي سمح بوصول الحزب إلى الحكومة، إلا أن قيادته لم تتردد في إعلان الخصومة معها، حرصًا على طمأنة المخزن وتأكيد ولائها لبنية الحكم. لقد أكلت القيادة غَلّة الحركة وسَبَت شعارها ثم سَبَّت مِلتها!


هذه البراغماتية بلغت ذروتها لاحقًا مع توقيع الحزب، وهو في شوطه الحكومي الأخير، على اتفاقيات التطبيع مع إسرائيل في خطوة فجائية كشفت حدود الرؤية المبدئية، وأظهرت أن الحزب قادر على تقديم تنازلات خطيرة دون خطوط حمراء واضحة، بما يجعل طبيعة مواقفه غير قابلة للتوقع أو الضبط الأخلاقي.

على المستوى الاقتصادي، افتقر الحزب إلى تصور اقتصادي مستقل ومتوازن. ومع غياب عقيدة اقتصادية حقيقية، انخرطت حكومته، بكل سذاجة، في تنفيذ سياسات ليبرالية متوحشة، اضعفت الخدمات الاجتماعية الاساسية وحررت الأسعار دون آليات حماية فعالة، مما أضر بالطبقات الشعبية والمستهلكين، وعمّق استفادة كبريات الشركات من الوضع الجديد، ومهد الطريق لحالة الافتراس التي يعيشها المغاربة مع الحكومة الحالية، في تناقض صريح مع خطابه الاجتماعي المعلن. خطاب يبدأ بمعاني الرحمة وينتهي ب “والله فضل بعضكم على بعض في الرزق”!

رغم نظافة اليد التي ميزت العديد من أعضاء الحزب ونخبه القيادية، فإن هذه النزاهة الفردية لم تمتد بالضرورة إلى المؤسسات التي تولوا الإشراف عليها، مثل الوزارات والهيئات الحكومية، والتي ظلت رهينة بنيات الفساد والبيروقراطية القديمة. فبدون إصلاح مؤسساتي حقيقي، لم تستطع النخبة النظيفة التحول إلى دينامية تطهر الفضاء العام أو تحسن من أداء الحكومة (التي بقيت مفصولة عن الحكم).

في ضوء هذه المسارات المتشابكة، جاءت هزيمة الحزب الانتخابية الماحقة سنة 2021 لتكشف سخط قواعده منه وهشاشة خيط بيت العنكبوت الذي نسجه مع الدولة العميقة (التحكم وفق أدبيات الحزب) التي لم يدخر صقورها جهدا قانونيا أو تقنيا او اعلاميا لكسر اللامبة فوق حصير الحزب بعد حصاره.

ها هو الحزب وقد ترك بعضا من سمعته وأبنائه عند أسوار “التوارگة” يتقاسم مع عبد الإله بنكيران عكازه بانتخابه، من جديد، أمينا عاما في محاولة لاستعادة جزء من الرصيد الرمزي.

لم يقدم الشيخ المتمترس وراء طاقيته الروسية وجلبابه الأسود ولسانه الحاشد، في بوزنيقة يومي السبت والأحد، برنامجا سياسيا واضحا، فهمتيني ولا لا، إلا أن “الإخوان” فرّوا اليه لجاذبية شخصيته الكاريزمية وقدرته على التواصل مع القواعد التي اختارت أن تشعل اللامبة، المكسورة فوق الحصير، بدل أن ترفع الشمس في وجه الظلام.

تقديري أن العودة إلى بنكيران تعبر عن انكماش الحزب إلى منطق الزعيم المُخَلَّص، بدل المراهنة على تجديد الرؤية والمؤسسات. وهي تؤكد أن الحزب، رغم انخراطه في التجربة الديمقراطية شكليًا، ظل يتحرك في إطار منطق تقليدي وكاريزمي بعيد عن تأسيس شرعية سياسية حديثة تقوم على البرامج.

ختامًا، يمكن القول إن حزب العدالة والتنمية، عبر إعادة انتخاب بنكيران، يعيد إنتاج إحدى أبرز المفارقات في مسيرته:
أن يكون أداة لاستقرار النظام السياسي لا قوة لدمقرطته، وأن يعتمد على الشرعيات التقليدية والكاريزمية في وقت يدعي فيه الانتماء إلى عالم عقلاني، فَعُذرا ماكس فيبر !

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى