
في لحظة مشحونة برمزية كثيفة، خرج المعتقل السياسي نبيل أحمجيق، بالريفية، من صمت الزنازين برسالة لم تكن هذه المرة صيحة احتجاج ولا تنديدًا بالظلم، بل إعلان انتصار ناعم لفكرة الإنسان المقاوم: حصوله على شهادة الماستر بميزة “حسن جدًا” ومعدل 18/20، موسومة بعنوان: “الدولة ومنطقة الريف: أية مصالحة؟” والحقيقة والمصالحة، تحت إشراف الدكتور محمد السعدي.
لم يكن الخبر مجرّد إعلان أكاديمي، بل كان رسالة مزدوجة: من جهة، انتصار للمعرفة في وجه القيد، و من جهة أخرى إعادة طرح مؤلم لسؤال المصالحة بين الدولة المغربية ومنطقة الريف، السؤال الذي ظل معلقًا منذ سنوات، رغم ما سُمي بمسلسل الإنصاف والمصالحة.
من خلف القضبان، كتب أحمجيق أحد أبرز الوجوه الرمزية لحراك الريف، تدوينته بكلمات مشبعة بالامتنان الإنساني، لعائلته ورفاقه وأساتذته، لكنها حملت أيضًا شحنة سياسية واضحة، صاغها الباحث-السجين بلغة أكاديمية، وجّهها للضّمير الجماعي، رسالة لا تقل قوة عن أي خطاب سياسي، رسالة تنطلق من واقع السجن لتغوص في تعقيدات الجغرافيا والتاريخ، وتحاكم من داخل المؤسسة الجامعية “سردية المصالحة الرسمية” التي تبنتها الدولة في مطلع الألفية الجديدة، لكنها ظلت – بالنسبة للعديدين – حبراً على ورق.
الريف… الجغرافيا التي لا تُطوّع
لكي نفهم أبعاد هذا الحدث الرمزي، لا بد من العودة إلى العلاقة التاريخية المعقدة بين الدولة المركزية ومنطقة الريف.
فالريف، ليس مجرد مجال جغرافي في الشمال المغربي، بل هو فضاء مشحون برموز المقاومة والنضال الوطني، من معركة أنوال بقيادة محمد بن عبد الكريم الخطابي، إلى انتفاضات 1958-1959 التي ووجهت بقصف جوي دموي، وصولًا إلى حراك 2016، ظلت المنطقة في مخيلة الدولة مرتبطة بالتمرد و”العصيان”.
الريف وكأنه مجال رمدي في خلفية تفكير الدولة وحتى غيرها
هذه الصورة النمطية، التي رُسّخت لعقود، ساهمت في تحويل الريف إلى مجال رمادي داخل خرائط التنمية، وحرمته من أبسط مقومات العدالة المجالية، حيث ظل الريف عرضة لهجرة ابنائه، محاصرًا في اقتصاد الريع، مع تحولات بنيوية لم تُواكبها إرادة حقيقية لإعادة إدماجه ضمن “تمغرابيت” متوازنة، و تعاملت معه الدولة بمنطق أمني لا تنموي، واستراتيجيات احتواء لا إدماج.
فبالرغم من مشاريع تنموية متفرقة، ظل الريف يعاني من العزلة، وتفشي البطالة، وتردي البنيات التحتية، و في ظل هذا التهميش أُعتبرت المطالب الاجتماعية لأبناء الحراك كتهديد سياسي، وواجهتهم الدولة بأحكام ثقيلة، عوض حوار يليق بمواطنتهم، حقوق الإنسان في المغرب.
حراك الريف… من الاحتجاج إلى المحاكمة
اندلع حراك الريف نهاية سنة 2016، إثر مقتل الشاب محسن فكري داخل شاحنة نفايات تحت صدى “طحن مو” بالحسيمة، التي كانت بمثابة القشة التي فجّرت غضبًا كامناً، لكن الحراك لم يكن وليد لحظة، بل نتيجة تراكم طويل من التهميش الاجتماعي والثقافي والسياسي،غضب ما لبث أن تطور إلى حركة احتجاجية سلمية، قادها نخبة محلية من أبناء المنطقة، مثقفين ونشطاء، بعيدين عن الولاءات الحزبية أو الأيديولوجيات الكلاسيكية، وجّهوا خطابهم مباشرة للدولة، بلغة مدنية واضحة، ومطالب اجتماعية واقتصادية ملموسة، من مستشفى للسرطان إلى جامعة للمنطقة، وصولاً إلى رفع العسكرة عن الإقليم،
لكن الرد كان أمنيًا: حملة اعتقالات طالت قادة الحراك، أبرزهم ناصر الزفزافي، نبيل أحمجيق، محمد جلول، وسمير إغيد، وأفضت إلى محاكمات وصفتها منظمات حقوقية محلية ودولية بـ”غير العادلة”.
وقد تحولت هذه الأحكام القاسية إلى منعطف خطير في مسار العلاقة بين الدولة وساكنة الريف، لتُعيد إلى الواجهة سؤال المصالحة الحقيقية، وجدوى المسلسل الرسمي للعدالة الانتقالية.
أحمجيق… حين تتحول الزنزانة إلى مختبر للمعرفة
اختار نبيل أحمجيق أن لا يكون سجينًا فقط، بل باحثًا أيضًا، رسالته حول “المصالحة” لم تكن بحثًا مجردًا، بل صياغة علمية لتجربة شخصية وجماعية، فحتى العنوان المختار: “الدولة ومنطقة الريف: أية مصالحة؟” ليس محايدًا، بل يتضمن مساءلة واضحة للخطاب الرسمي حول المصالحة الوطنية، الذي دشّنته هيئة الإنصاف والمصالحة منذ 2004، والذي وعد بطي صفحة الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان.
بحثٌ ينطلق من سؤال جوهري: لماذا لم تثمر هيئة الإنصاف والمصالحة في بناء عقد جديد مع الريف؟
بالنسبة لاحمجيق أن هذه المصالحة، في شقها الرمزي والمجالي، بدت ناقصة، فبينما جرى التعويض المالي لضحايا الانتهاكات في بعض الحالات، ظلت مناطق مثل الريف خارج الحسابات الحقيقية، المصالحة لم تكن شاملة، بل انتقائية، مجتزأة، ومحكومة بهاجس الاستقرار السياسي أكثر من كونها تأسيسًا لعقد اجتماعي جديد.
إن نبيل أحمجيق، في اختياره لعنوان بحثه، يعيد توجيه النقاش من سجال “الحقوق الفردية” إلى أفق أوسع: مصالحة الذاكرة والهوية والتنمية.
السؤال ليس فقط عن الماضي، بل عن الحاضر والمستقبل: هل يمكن تحقيق مصالحة دون الاعتراف؟ هل يمكن الحديث عن عدالة انتقالية في ظل استمرار الأحكام القاسية ضد نشطاء الحراك؟ وهل يمكن بناء مغرب جديد على أنقاض صمت جماعي؟
ما يجعل هذا الحدث مفصليًا هو أنه يعكس تحولاً في طبيعة النضال نفسه، من الشارع إلى القاعة الجامعية، من الهتاف إلى التحليل.
نبيل أحمجيق لم يكتف بلعب دور الضحية أو الأسير، بل اختار أن يتحول إلى باحث في تجربة سجنية/مجالية، وأن يضع الدولة أمام مرآة خطابها.
ومن خلال شكره لعائلته، لزملائه في الاعتقال، للناشطة سارة سوجار، وللأستاذ محمد السعدي، يقدّم مثالاً نادرًا عن نضال معرفي يعيد الاعتبار لفعل المقاومة الذهنية والوجدانية في وجه آلة النسيان والتهميش.
الرسالة، التي أشادت بها لجنة المناقشة ومنحتها تنويهًا خاصًا وتوصية بالنشر، تناولت أبعادًا مركبة: التاريخ، التنمية، الهوية، والعدالة المجالية. وبهذا، تكون قد أعادت النقاش إلى قلب المؤسسة الأكاديمية، بعد أن طُرد من الإعلام الرسمي، وسُجن في تقارير جاهزة.
إن هذا التميز الأكاديمي ليس فقط إنجازًا فرديًا، بل شكل من أشكال المقاومة الرمزية، مقاومة تبني سردية جديدة داخل الزنازين، تؤرخ للوجع، وتؤكد أن الكرامة لا تسجن، وأن المثقف يمكن أن يولد من عمق القمع.
سؤال المصالحة… هل هو سؤال مغشوش؟
بالعودة إلى إطلاق هيئة الإنصاف والمصالحة سنة 2004، قدمت الدولة نفسها كطرف يسعى إلى طي صفحة ماضي الانتهاكات، وجرى تعويض آلاف الضحايا ماديًا، وفتح النقاش حول العدالة الانتقالية، لكن ظل سؤال المصالحة المجالية مع مناطق مثل الريف، درعة، والجنوب الشرقي، بلا جواب. وبدل أن يُفتح حوار عميق مع سكان الريف، اختُصر التعامل معهم في مقاربة أمنية، زادت من فجوة الثقة، وعمّقت الإحساس بالغُبن والتمييز.
تدوينة أحمجيق تُعيد طرح السؤال بإلحاح: كيف يمكن الحديث عن مصالحة، في الوقت الذي يقبع فيه نشطاء سلميون خلف القضبان؟ وأين مصداقية الخطاب الرسمي في ظل استمرار محاكمات الرأي، وتهميش المناطق التي دفعت الثمن الأغلى في ماضي الصراع والدولة؟
الحرية هي المدخل الأول لأي مصالحة
لا مصالحة بدون حرية. ولا جدوى من الحديث عن الإنصاف ما لم يُفرج عن المعتقلين السياسيين، ويُفتح نقاش وطني صادق حول شروط إعادة بناء الثقة، فالريف ليس عدوًا، بل جزء لا يتجزأ من الهوية الوطنية، والاحتجاج ليس تهديدًا، بل مؤشر صحة في الديمقراطيات الحية.
نجاح نبيل أحمجيق، ليس فقط خبرًا سعيدًا لعائلته ورفاقه، بل دعوة للتأمل: ماذا لو استثمرنا في هؤلاء الشباب كقادة رأي، لا كـ”متهمين”؟ وماذا لو تحولت رسائل السجون إلى خارطة طريق نحو عدالة مجالية حقيقية؟
بين جدران السجن، كتب أحمجيق فصلاً جديدًا في تاريخ العلاقة بين الريف والدولة، فصلٌ لا يُحاكم بمرارة، بل يُحلل بهدوء. يكتب ليحيا، وليُذكّر الدولة بأن الذاكرة لا تُدفن بالأحكام، وأن المصالحة، إن لم تُبْنَ على الحقيقة، ستظل مجرّد شعار بلا محتوى.
اقرأ أيضا…