الرئسيةثقافة وفنون

بين الأناقة والرقابة: مهرجان “كان” يُجرّم التعري

في تحوّل لافت في سياساته التنظيمية، أعلن مهرجان “كان” السينمائي الدولي عن اعتماد تدابير جديدة ‘تحظر بشكل صارم كل أشكال التعري أو السلوكيات التي “تخدش الذوق العام” على السجادة الحمراء أو في أي من فضاءاته العامة.

ويأتي القرار كجزء من “ميثاق سلوك جديد”، يُنظر إليه من قبل المراقبين كاستجابة مباشرة لحوادث احتجاجية وقعت في الدورات السابقة، واستخدمت الجسد كأداة سياسية وسط وهج الكاميرات.

السجادة الحمراء: من رمزية الأناقة إلى ساحة المواجهة الرمزية

ليست هذه المرة الأولى التي يشهد فيها مهرجان كان توترات بين الضوابط الرسمية والتعبير الجسدي، فقد باتت السجادة الحمراء خلال السنوات الأخيرة نقطة التقاء بين الاحتجاج السياسي والجمال الاستعراضي، حين لجأت ناشطات إلى استغلال حضور الإعلام العالمي للاحتجاج على قضايا مثل الحرب، التحرش الجنسي، والتمييز الجندري.

في دورة 2022، اقتحمت ناشطة من حركة نسوية فرنسية السجادة الحمراء عارية الصدر، وكتبت على جسدها شعارات مناهضة للعنف ضد النساء في أوكرانيا، وفي 2023، رفعت ممثلة أوروبية فستانها أمام العدسات تضامنًا مع النساء الإيرانيات، هذه الوقائع، وإن كانت نادرة، أثارت اهتمامًا عالميًا لكنها أيضًا وضعت المهرجان أمام إحراج تنظيمي حقيقي.

قرار المهرجان: ضبط أم رد فعل دفاعي؟

البيان الصادر عن إدارة المهرجان هذا العام جاء واضحًا:

لكن وراء هذا البيان الرسمي تختبئ طبقات من التأويل، فهل ما تم هو مجرد تنظيم لآداب الفضاء العام، أم خطوة ضمن موجة رقابية تصيب حتى الفضاءات الإبداعية العالمية؟

منظمات حقوقية: “حرية التعبير ليست انتقائية”

رد الفعل الأبرز جاء من منظمة “هيومن رايتس ووتش” التي صرّحت عبر مسؤولة السياسات الثقافية فيها، إيلينا دورو، بالقول: “نحن نقر بحق المؤسسات في تنظيم فعالياتها، لكن فرض قيود جسدية على الفنانين والنشطاء هو تقييد لحرية التعبير، خاصة حين يكون الهدف هو لفت الانتباه لقضايا إنسانية حرجة.”

من جهتها، انتقدت منظمة “فنانون من أجل الحرية” القرار واعتبرته جزءًا من حملة دولية لتكميم التعبير الجسدي في الفنون، مشيرة إلى أن “الجسد ظل لعقود أداة مقاومة، ومن الظلم تجريمه فجأة باسم الذوق العام”.

فنانات يتحدثن: بين الاستعراض والاحتجاج

الفنانة الفرنسية “أديل إينيل” ، المعروفة بمواقفها النسوية الصريحة، صرّحت لصحيفة”Libération” قائلة: “كان يُفترض أن يبقى مهرجان كان مساحة حرة لتفاعل الفن والسياسة. عندما يُمنع الجسد من التعبير، نبدأ بفقدان أحد أهم أوجه السينما: الصدمة الفكرية.”

أما الممثلة الإيرانية “زهرا أمير إبراهيمي ” ، التي فازت بجائزة أفضل ممثلة في دورة سابقة، فعلّقت من منفاه في باريس قائلة: “نشأتُ في بلد يُعاقب المرأة على جسدها، ولم أتخيل أن أرى اليوم خطوات مماثلة في فرنسا باسم الرقيّ. الجسد ليس جريمة.”

السياق الدولي: الجسد كأداة صراع ثقافي

التحولات التي يشهدها مهرجان “كان” ليست معزولة عن التحولات الثقافية العالمية، في ظل صعود التيارات المحافظة داخل أوروبا، وتنامي الخطابات التي تخلط بين الأخلاق العامة والأمن الثقافي، تتعرض المؤسسات الفنية لضغوط متزايدة لضبط ما يُعتبر “محتوى غير لائق”، حتى وإن كان تعبيرًا مشروعًا عن قضايا عادلة.

الناقدة الثقافية الألمانية “ماريكا هولزمان” ترى أن “الرقابة الناعمة” أصبحت آلية جديدة تعتمدها المؤسسات الكبرى لحماية صورتها الدولية دون الدخول في صدامات سياسية مباشرة.

“إنها رقابة مغلفة بلغة البروتوكول، لكنها لا تختلف كثيرًا عن الممارسات الاستبعادية التي عرفناها في سياقات أكثر قمعًا”، تضيف هولزمان.

المهرجان بين بريق الصورة وضجيج الواقع

قرار مهرجان “كان” بحظر التعري قد يبدو في ظاهره تدبيرًا تنظيميًا عاديا، لكنه يعكس صراعًا عميقًا بين” التحكم في الصورة” و” حرية التعبير”، بين منطق الاحتفال ومنطق الاحتجاج، وفي عالم تُسيطر فيه الصورة على الرواية، لا يعود الجسد مجرد موضوع للعدسات، بل يصبح حاملًا لرسائل سياسية تصعب السيطرة عليها.

ومع كل دورة، يثبت “كان” أنه ليس فقط مهرجانًا للسينما، بل أيضًا مختبرًا لصراعات الرمزية، والحدود المتداخلة بين الجمال، السلطة، والمقاومة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى