الرئسيةمنوعات

ذاكرة الموت المؤجل: عندما تُكتب الإبادات الجماعية بحبر “المنتصر” 2/1

رغم أن مصطلح “الإبادة الجماعية” _ صنفت كـجريمة دولية في اتفاقية وافقت الأمم المتحدة عليها بالإجماع سنة 1948_,,يكتسي طابعا قانونيا وأخلاقيا جليا، إلا أن استخدامه غالبا ما يكون خاضعا لحسابات سياسية دقيقة. إذ يغدو أحيانا مجرد أداة خطابية تُستخدم بانتقائية، وتُوظف بذكاء للتبرير أو الإدانة حسب المصالح والمواقف الدولية، هذا التوظيف السياسي للمصطلح يزداد تعقيدًا في ظل غياب تعريف عددي أو معياري صارم يحدد متى تصبح المجازر إبادة جماعية، مما يفتح الباب أمام التأويل والتمييع، بل وأمام محو الذاكرة الجماعية لبعض الشعوب بشكل متعمد.

بعبارة أوضح، فدراسة ما تم نسيانه، أكثر مما تم تذكره، قد يكشف زيف الحياد التاريخي، ويعرّي البنية التسلطية التي تُعيد إنتاج السردية العالمية من وجهة نظر القوى المنتصرة، أو القوى التي تملك أدوات الخطاب العالمي

عندما تصمت الذاكرة وتتكلم السياسة

 

في تاريخ الإنسانية، لم تكن المذابح الجماعية مجرد انحرافات في مسار الدول أو لحظات شاذة في سجل الحضارات، بل كانت دومًا مرآة صادقة لمستوى الانحطاط الذي يمكن أن تبلغه السلطة حين يتحول “الآخر” إلى مشروع إبادة، والمفارقة أن العالم الذي أفرز محاكم نورمبرغ وصاغ “اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها” عام 1948، هو ذاته الذي يبرر الصمت، يتواطأ في التعتيم، ويتعامل مع دماء الشعوب وفق منطق انتقائي: من يستحق أن يُبكى عليه؟ ومن لا بأس بتجاهله؟

الإبادة الجماعية، بما هي جريمة منظمة تستهدف الوجود المادي والرمزي لجماعة ما، ليست فقط أرقامًا تُحصى، ولا صورًا تُتناقل، إنها قبل كل شيء خطاب سياسي، وشهادة على هشاشة الضمير العالمي.

حين تتحول الجريمة إلى “رأي”

تُعرّف الأمم المتحدة الإبادة الجماعية بأنها “أفعال ترتكب بقصد تدمير جماعة قومية أو عرقية أو دينية أو إثنية، كليًا أو جزئيًا”، لكن الواقع السياسي يكشف أن هذا التعريف القانوني كثيرًا ما يُخضع للانتقائية الدولية. وبينما تحظى بعض المآسي بالاعتراف، تُطمس أخرى تحت ركام المصالح والتحالفات. فهل يمكن لضحايا لا حلفاء لهم أن يحصلوا على العدالة؟

الإبادة ليست فقط أداة قتل.. بل لغة في هندسة الخرائط

في جوهرها، لا تقوم الإبادة الجماعية على القتل وحسب، بل على مشروع أشمل: إعادة تشكيل المجال الديمغرافي والرمزي وفق هندسة السلطة.

فالضحايا لا يُستهدفون لأفعالهم، بل لهويتهم، لمجرد كونهم “ينتمون”. وهذا الانتماء، في لحظة ما، يصبح تهديدًا لا بد من تصفيته.

في تركيا الكمالية، لم يكن الأرمن وحدهم المستهدفين، بل كل أقلية تهدد النقاء القومي المُتخيل.

في البوسنة، لم تكن المجازر فعل حرب، بل تطهيرًا مبرمجًا لما اعتُبر “فضاءً غير متجانس”.

في رواندا، لم يكن التوتسي خصومًا سياسيين، بل “صراصير” ينبغي سحقها… بتواطؤ داخلي وتغاضٍ خارجي.
هكذا تتكرر المعادلة: خطاب تحريضي – تجريد من الإنسانية – شرعنة الإبادة.

في غزة، و أمام حجم المجازر والدمار الذي ارتكبه الجيش الإسرائيلي في غزة، يرى المؤرخ الإسرائيلي المتخصص في “المحرقة” (الهولوكوست) عاموس غولدبرغ، أن بلاده “بالغت في رد فعلها بشكل إجرامي” على هجوم طوفان الاقصى، واتهمها بارتكاب “إبادة جماعية” في غزة.

ويقول المؤرخ: لذلك بدأت الكتابة وأنا أدرك أن كارثة إنسانية وسياسية هائلة كانت تتكشف أمام أعيننا، وكتبت بالعبرية “نعم إنها إبادة جماعية”، وترجم النص إلى اللغة الإنجليزية وقرأه كثيرون حول العالم.

أرشيفات من الدم و شهادات لا تندمل

1. إبادة الأرمن: جريمة معلقة في الذاكرة الدولية

رُحلوا سيرًا على الأقدام نحو الصحراء، نساؤهم اغتُصبن، أطفالهم ماتوا من الجوع، رجالهم قُتلوا في السجون أو على الطرقات.

ومع ذلك، ما زالت الدولة التركية تُصِرّ أن ما حدث ليس “إبادة” بل “أحداثًا مؤسفة”_هي عملية القتل الجماعي الممنهج وطرد الأرمن التي حصلت في أراضي الدولة العثمانية على يد حكومة جمعية الاتحاد

والترقي خلال الحرب العالمية الأولى_ ، أكثر من مليون ونصف ضحية سقطوا بين 1915 و1923، ومع ذلك لا يزال الاعتراف الدولي انتقائيًا، هنا تُصبح الذاكرة رهينة الحسابات الجيوسياسية، وتُفرض على الضحايا مهمة الدفاع عن حقهم في التسمية.

من جهته يؤكد المؤرخ التركي تانير أكشام، أحد أبرز المنشقين عن الرواية الرسمية التركية، أن “الإبادة الأرمنية كانت مبرمجة على أعلى مستويات الدولة العثمانية، ولم تكن نتيجة اضطرابات حرب كما تدعي الرواية الرسمية”،
ويضيف: “المستندات الأرشيفية العثمانية نفسها تحمل أدلة دامغة على النية الواضحة للتطهير العرقي”.

ورغم اعتراف أكثر من 30 دولة، منها فرنسا وكندا وألمانيا، إلا أن مصالح تركيا الاستراتيجية مع حلف الناتو والولايات المتحدة تجعل من الاعتراف الدولي الكامل رهينة الحسابات السياسية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى