الرئسيةمجتمع

“مول الحانوت” بين وهم الدعم الرسمي وتبدلات السوق

قدّم عمر حجيرة، كاتب الدولة المكلف بالتجارة الخارجية، مداخلة في جلسة الأسئلة الشفوية بمجلس النواب يوم الإثنين 16 يونيو 2025، حول “مول الحانوت” وصعوباتهم المتزايدة أمام ضغوط السوق المحلية والعالمي، والتي اعتُبرت من قبل البعض “إنصافاً” لتجار الحانوت، بينما اعتبرها آخرون محاولة لتحويل ضوء الخافت في نفق تجارة القرب إلى شعلة مضيئة وهمية لا تتعدى أضواء الجلسات البرلمانية.

أشار المسؤول الحكومي إلى أن هذا القطاع يشكّل “ركيزة أساسية” في الاقتصاد الاجتماعي للمغرب، مستنداً إلى معطيات رسمية تفيد بأن تجارة القرب تمثل 58% من رقم المعاملات التجارية بالمغرب، وأن متوسط رقم المعاملات السنوي يبلغ حوالي 38 ألف درهم، فيما يدير 80% من نقاط البيع ويشغل نحو 36% من اليد العاملة في قطاع التجارة، أي ما يقارب 600 ألف شخص، أرقام لامعة على الورق لكنها تخفي وراءها مأساة يومية يغرق فيها “مول الحانوت” وسط تحديات اقتصادية واجتماعية قاسية.

أرقام بلا سياق..

تحرير: جيهان مشكور

فمن زاوية، تبدو أرقام حجيرة معلقة على خطافات متينة، لكنها في الحقيقة تفتقر إلى سياق معمّق يبيّن كيفية وصول “مول الحانوت” إلى تلك المعطيات وما ورائها من تباينات جهوية وشروط تشغيل حقيقية.

فعلى سبيل المثال، رقم المعاملات السنوي المتوسط المذكور (حوالي 38 ألف درهم) يحتاج إلى مقارنة مع تكاليف التشغيل الفعلية (الإيجار، الكراء، المشتريات، الخدمات الرقمية وغيرها) حتى يتبيّن ما إذا كان التاجر الصغير يغطّي حاجياته الأساسية أم يعيش على هامش ربح ضئيلاً يكاد لا يكفي لسد تكاليف المعيشة.

وفي ظل تراجع القدرة الشرائية وظلال التضخم المستمر، قد يكون الرقم جرس إنذار على ضعف هوامش الربح أو انعدماه أكثر منه مدعاة للفخر.

فوفق تقارير رسمية صادرة عن وزارة التجارة، تصل تكاليف التشغيل الشهرية لمول الحانوت المتوسط في المدن الكبرى إلى حوالي 4 آلاف درهم فقط (بدون احتساب الإعفاءات أو الدعم)، أي ما يعادل 48 ألف درهم سنوياً، مما يعني أن رقم المعاملات المعلن لا يكاد يغطي المصاريف الأساسية، فما بالك بالربح؟!

الرقمنة: خطة طوباوية أم قناع لتجميل الواقع؟

منسجمًا مع وعود العصر، تحدث حجيرة عن رقمنة التجارة واستعداد “مول الحانوت” لمونديال 2030، إلا أنها لا تتعدى ضمانة حكومية شبه اعتباطية تدخل ضمن “الموضة” الحالية لحلول التكنولوجيا، لكن مع تجاهل تام للقدرات الفعلية للتجار الصغار على تبني هذه الحلول….

فقد أظهرت المبادرات السابقة بمواكبة عدد محدود من التجار وإعداد “كارني إلكتروني” أو تحفيز على استعمال “TPE” وأدوات إدارة المخزون، أنها غالبًا ما تظل برامج تجريبية لا تتجاوز نماذج أولية وعددًا ضئيلاً من المستفيدين، بينما يبقى معظم أصحاب الحوانيت عاجزين عن مواجهة تكاليف التجميل الرقمي أو فهم منطق التجارة الإلكترونية الخاضع لمنصات كبيرة وتحكّم خوارزميات تحدد ظهورهم أمام الزبون.

وهنا تبدو أن الرغبة في رقمنة القطاع كمن يحاول أن يضع ضمادة تقنية على جرح اقتصادي عميق يحتاج إلى حلول هيكلية أوسع منها إلى تحديث في الواجهة فقط.

المنافسة القاسية: بين متاجر الكبار والتغيرات الاستهلاكية

في ظل تمدد المتاجر الكبرى والسلاسل التجارية، أصبحت المنافسة خانقة، فحسب تقرير وزارة الصناعة والتجارة لسنة 2024، عدد المساحات التجارية الكبرى تضاعف في أقل من عشر سنوات ليصل إلى أكثر من 200 مركز تجاري كبير، فيما توسعت شبكات التوزيع مثل “مرجان” و”بيم” و”كارفور” لتغطي أحياءً شعبية كانت تعتبر سابقاً معقلاً حصرياً لمول الحانوت.

وتُظهر دراسة حديثة أن 73% من المستهلكين في المدن الكبرى يفضلون التسوق من متاجر كبرى بسبب تنوع العرض والعروض الترويجية، مما يجعل البقالة الصغيرة في وضع دفاعي دائم، عاجزة عن مجاراة هذه الآليات الحديثة.

أما التجارة الإلكترونية، فقد عرفت قفزة هائلة، حيث كشف تقرير CNPAC & Maroc Numeric Cluster أن المعاملات الرقمية تضاعفت أربع مرات بين 2020 و2023، وبلغت قيمة المشتريات عبر الإنترنت في المغرب أكثر من 12 مليار درهم سنة 2023، وهو رقم يوضح أن الزبون انتقل فعلياً من الدكان إلى التطبيق.

فكيف يمكن لـ “مول الحانوت” التابع عادة لحي شعبي أو منطقة سكنية أن ينافس واجهات إلكترونية تلمع بألوان العروض والتخفيضات الموسمية، أو متاجر ضخمة تحاصر السوق بجودة منتجاتها وأسعارها التي لا يقوى التاجر الصغير على مجاراتها؟

الدعم الحكومي: بين الشعارات والواقع

هل تكفي وعود و”شعارات الدعم” الحكومية، التي يعلقها المسؤولون على جدران الإدارات، دون أن ترتقي إلى خطط عملية مستدامة، للحفاظ على ما تبقى من قطاع “مول الحانوت”؟

فبدون دراسات ميدانية معمقة تقيس تكاليف الإدماج الرقمي، وتأثير التكتلات والتعاونيات، ومستوى التمويل الميسر، ستبقى كل المبادرات مجرد شعارات ينتهي أمرها عند صياغةض البلاغات الرسمية ..

في هذا السياق ، تبرز الحاجة الى ضرورة تجاوز الدولة الخطاب الرسمي حول “تحديث قطاع مول الحانوت” عبر:

* إحداث تعاونيات شراء جماعية: تتيح للتجار الصغار فرصة الحصول على السلع بأسعار تفضيلية، وقد نجحت تجارب مماثلة في الهند والمكسيك، حيث مكنت التعاونيات التجار من تقليص كلفة الشراء بنسبة 30%.

* توفير تمويل ميسّر يناسب طبيعة العمل الصغير والهش.

* بناء قدرات رقمية حقيقية ليست في المعدات فقط، بل في التسويق الإلكتروني وتكوين التجار.

* دعم منصات رقمية محلية حكومية، بدل ترك المجال لمنصات أجنبية تقضي على هوامش الربح.

* سن قوانين تحد من توسع المتاجر الكبرى في الأحياء السكنية بدون دراسات جدوى اقتصادية واجتماعية.

* إعادة النظر في تراخيص العمل وساعات الفتح بما يخلق توازناً في المنافسة.

إنقاذ “مول الحانوت” اختبار حقيقي للدولة الاجتماعية

المفارقة القاسية أن “مول الحانوت” هو مرآة الدولة الاجتماعية، فإن فشلنا في إنقاذه، فقد فشلنا في حماية الفئات الهشة التي تعيش على هامش السوق ولا تملك قدرة الدفاع عن وجودها.

الوقت ليس في صالح أحد، كل محل يغلق هو أسرة تنهار، وكل تاجر يُقصى هو خيط يُقطع من نسيج الحي، وإذا استمر الوضع على ما هو عليه، فسنجد أنفسنا بعد سنوات نقرأ بلاغات رسمية تتحدث عن “تحقيق الأهداف الرقمية” بينما اللافتات على الأرض تكتب بلغة أخرى: “المحل للبيع… حلم البقاء انتهى”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى