الرئسيةسياسةميديا وإعلام

دوزيم تدخل بيت “الطاعة العمومي”

تحرير: جيهان مشكور

أعلن عبد اللطيف زغنون، المدير العام للوكالة الوطنية للتدبير الاستراتيجي لمساهمات الدولة وتتبع نجاعة أداء المؤسسات والمقاولات العمومية، في اجتماع للجنة مراقبة المالية العامة في مجلس النواب، “أن القناة الثانية 2M ستتحول خلال شهرين إلى شركة تابعة للشركة الوطنية للإذاعة والتلفزة” ، في خطوة جديدة ضمن مشروع “إعادة هيكلة” القطاع السمعي البصري في المغرب.

غير أن هذا الإعلان، على بساطته الظاهرية، يخفي وراءه تعقيدات أكبر وأسئلة محرجة حول مستقبل الإعلام العمومي، وفعالية “الإصلاح من الداخل” في مؤسسة طالها العجز، وسكنها الشك، وطغى عليها الارتجال المالي والتدبيري.

دوزيم من المشروع الحداثي إلى وصاية الإدارة المركزية: مسار قناة تائهة

قناة “دوزيم”، التي تأسست سنة 1989 كمبادرة ذات طابع شبه خاص، مَثلت في بدايتها تجربة متميزة حاولت أن توازن بين مقتضيات الخدمة العمومية وروح المقاولة الإعلامية، لكنها تحولت منذ سنوات إلى مشروع إعلامي هجين يتقلب بين دعم الدولة وديون المؤسسات البنكية، وبين طموح المنافسة وفقر المحتوى، وبحسب تقارير رسمية سابقة صادرة عن المجلس الأعلى للحسابات، فإن القناة راكمت خلال العقدين الماضيين عجزًا هيكليًا قارب 1.4 مليار درهم، وسط اعتماد شبه كلي على التمويل العمومي الذي تجاوز في بعض السنوات 50% من ميزانيتها.

في هذا السياق، أكد زغنون أن عملية إعادة الهيكلة التي تشهدها شركة “صورياد دوزيم”، الشركة المشغلة للقناة الثانية “2M”، في مراحلها النهائية، ومن المتوقع أن تُستكمل خلال أسابيع قليلة، تمهيدًا لتحويل الشركة رسميًا تحت لواء الشركة الوطنية للإذاعة والتلفزة في غضون شهرين، وكأننا أمام مشهد إعادة تدوير إعلامي في غياب أي مساءلة حقيقية حول أسباب الفشل، ومسؤولية التدبير، وجدوى “القطب العمومي” الذي لا يزال في طور التنظير منذ أكثر من عقد.

زغنون يعلن دون أن يشرح: أين نحن من “نجاعة الأداء”؟

في كلمته أمام لجنة مراقبة المالية العامة بمجلس النواب، لم يَغُص زغنون كثيرًا في تفاصيل إعادة الهيكلة، مكتفيًا بالإشارة إلى أن العملية “في طور الإنجاز” وستنتهي خلال أسابيع، لتنتقل دوزيم بعدها إلى وصاية SNRT، في إطار “إحداث قطب عمومي سمعي بصري”.

لكن اللافت، هو أن المتحدث – الذي يتولى رسمياً تتبع “نجاعة الأداء” داخل المؤسسات العمومية – لم يقدم أي أرقام أو معايير تقييم واضحة حول الأداء المالي أو التحريري للقناة خلال السنوات الأخيرة، ولا كشف عن خطة الإنقاذ التي من شأنها أن تبرر هذا التحول الجذري.

فهل هي نجاعة غامضة أم وصفة إنقاذ من نوع “دفن المشاكل في مؤسسة أكبر”؟


هذه السرعة المفترضة توحي بأن العمليات الإدارية والبنود القانونية جاهزة، ولكنها في الواقع قد تخفي عمليات تفاوض داخلية على المناصب والموارد وسقف الرواتب وحجم الاستقلالية التحريرية، فـ2M لطالما تميزت ببرامج تنتقد أحياناً بعض الملفات الحكومية أو الاجتماعية، وإن كان ذلك ضمن حدود مسقاة سلفاً، الا إن دمجها بالكامل تحت مظلة SNRT قد يعني تضييقاً أكثر حتى على هامش “الانتقاد المقبول”.

التكاليف الحقيقية للإصلاح: أرقام غير معلنة وهدر محتمل

إضافة 2M إلى SNRT تعني توحيد أنظمة معلوماتية، وربما إعادة هيكلة الموظفين، وجدولة تنقلات وتمويلات جديدة، لكن الأهم هو أن هذه الخطوات غالباً ما تترافق مع تكاليف إضافية غير معلنة: مستشارون خارجيون، دراسات تقييم، رسوم قانونية، تكاليف دمج البنى التحتية التقنية، وربما تعويضات إنهاء عقود بعض الكفاءات المستقلة التي قد لا تتماشى والرؤية الجديدة، ورغم أن الهدف المعلن هو “تحسين النجاعة”، إلا أن الواقع في كثير من حالات الدمج العمومي يميل إلى تضخم النفقات الإدارية في مرحلة ما بعد الدمج، قبل أن تظهر النتائج المرجوة إن وجدت.
ونظراً لغياب شفافية كاملة حول تفاصيل هذه الإجراءات، يبقى السؤال: هل هناك دراسات تكلفة-عائد حقيقية تظهر أن دمج 2M يُسهم في خفض المصاريف أو رفع الإيرادات؟ أم أن الأمر قسمة لميزانية أكبر على عجز في الرؤية؟ هذا السؤال سيبقى معلقاً ما لم تُنشر تقارير دقيقة عن مراحل الدمج والتأثير المالي والبرنامجي خلال فترة ما بعد التحويل.

القطب العمومي الموحد: توحيد إعلامي أم توحيد للرؤية؟

التحاق كل من قناة “ميدي 1 تيفي” وإذاعة البحر الأبيض المتوسط.. بالشركة الوطنية للإذاعة والتلفزة تم خلال شهري أبريل ويوليوز 2024، في صمت شبه كامل إعلاميًا، وبتبريرات مكررة حول “خلق نواة إعلامية عمومية موحدة”، لكن ما الذي تعنيه هذه الوحدة في السياق المغربي؟ هل نحن بصدد تكريس احتكار رسمي للمشهد الإعلامي العمومي تحت قبعة واحدة؟ أم أنها فقط محاولة لتقليص الخسائر عبر توزيعها على مؤسسات عدة؟

القطب العمومي… الشعار الأبدي؟

منذ أكثر من عشر سنوات، والمغرب يتحدث عن إنشاء “قطب سمعي بصري عمومي”، لكن هذا الحلم ظل عالقًا بين تقارير المجالس، ولجان البرلمان، واستراتيجيات الوزارة الوصية، دون أن ينعكس فعليًا على جودة المنتوج الإعلامي، أو على نسب الثقة التي تراجعت لدى الجمهور، ففي تقرير حديث للمجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، أشار إلى أن أكثر من 70% من المغاربة لا يثقون في الإعلام العمومي، وهو ما يطرح علامات استفهام حول الهدف من كل هذه التحركات الإدارية الأخيرة.

فهل نحن أمام إعادة انتشار إعلامي يهدف إلى ضبط النفقات وتحسين الحكامة؟ أم أمام توحيد هادئ، لكنه صارم، للرؤية الإعلامية الرسمية في مشهد تتقلص فيه المساحات المستقلة ويُدجّن فيه الصوت النقدي تحت راية “القطب الموحد”؟ إذ لا وجود لإشارات واضحة على دور المجتمع المدني أو مهنيي الإعلام في بلورة ملامح “القطب العمومي”، كما لا نرى إشراكاً حقيقياً للبرلمان أو النقابات المهنية أو الهيئات المعنية بحرية الصحافة، ما يجعل “الإصلاح” الحالي أقرب إلى خطة فوقية محكومة بهاجس التحكم بدل التطوير.

بين إعادة الهيكلة والغياب عن المنافسة

من الناحية التقنية، لا شك أن نقل دوزيم إلى SNRT سيسهل من توحيد بعض المصاريف الإدارية واللوجستيكية، وقد يمكن من ضبط الكلفة على الورق، لكن المشكل أعمق من ذلك: فالقنوات العمومية المغربية اليوم لا تتوفر على سياسة تحريرية واضحة، ولا على نموذج اقتصادي مستدام، ولا حتى على مواكبة حقيقية للتحول الرقمي، ما يجعل الحديث عن “إعادة الهيكلة” يبدو أقرب إلى حل تنظيمي لبنية مهترئة بدل كونه قفزة نوعية.

أي مستقبل للمشهد السمعي البصري؟

في ظل هذا التحول، تُطرح أسئلة جوهرية على طاولة النقاش الوطني:

هل سيتم الحفاظ على التعددية الشكلية بين القنوات أم سنعود إلى قناة واحدة بوجوه مختلفة؟

ما هي الضمانات لتحصين استقلالية التحرير والمضمون؟

من يراقب نجاعة هذا “القطب العمومي”؟ وهل سيتم ربط الدعم المالي بالمردودية المجتمعية؟

هل ستُفتح نقاشات عمومية حقيقية بمشاركة كل الفاعلين أم أن الإصلاحات ستُفرض من الأعلى كالمعتاد؟

الجواب الأصدق قد يأتي من المواطنين الذين هجروا الإعلام الوطني، أو من شباب اختار “اليوتوب” و”التيك توك” بدل نشرة أخبار لا تقول شيئًا.

أما “القطب العمومي”، فربما يبقى مجرد نكتة بيروقراطية… تنتظر إعادة الهيكلة هي الأخرى.

في النهاية الإصلاح الحقيقي لا يقوم على تحويل الشركات وتغيير اللوحات الاسمية، بل على تحرير الفضاء الإعلامي، وضمان التعددية، وربط الدعم العمومي بالشفافية والمساءلة، وليس بالولاء والتبعية.

وإلى حين تحقق ذلك، قد تبقى قناة “دوزيم” — التي كانت ذات يوم مشروعاً حداثياً — مجرد رقم إضافي في جوقة إعلامية تؤدي اللحن ذاته، ولو بتوزيع مختلف.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى