اقتصادالرئسية

تسوق كـ”ثورة مالية” وطنية..حقيقة “الدرهم الإلكتروني”

في خضم خطابات التحديث والرقمنة، تطل علينا السلطات المالية المغربية بما تسوقه كـ”ثورة مالية” وطنية: “الدرهم الإلكتروني” ، عملة رقمية سيادية يرى فيها المسؤولون جسراً نحو المستقبل، بينما يراها كثيرون وصفة جديدة لتزيين “الهشاشة البنكية” برقعة تكنولوجية براقة، فالتحول الرقمي لا يعني شيئًا إذا ظل المواطن يفتقر إلى الثقة، والعدالة، والشبكة البنكية الأساسية.

بين وعود الشمول المالي وواقع الإقصاء المؤسساتي

شرع “بنك المغرب” في الإعداد لإطلاق الدرهم الرقمي منذ سنة 2021، وأنهى مؤخرًا مرحلته التجريبية الثانية، حسب ما أعلنه عبد الرحيم بوعزة، المدير العام للمؤسسة.. من بين الأهداف المعلنة لهذه الخطوة: تسريع الأداءات، تقليص الكلفة، وتوسيع قاعدة الشمول المالي لمواجهة ما يُعرف بـ”الاقتصاد غير المهيكل”، الذي يمثل حوالي 30% من الناتج الداخلي الخام، حسب أرقام رسمية.

لكن، إذا ظلّ هذا الاقتصاد يتوسع رغم كل البرامج الإصلاحية السابقة، فهل حقًا تطبيق إلكتروني سيكون كفيلًا بإدماج ملايين المهنيين البسطاء والتجار في المنظومة البنكية الرسمية؟

وهل سُحنت الهشاشة المالية بكود رقمي؟ أم أننا فقط أمام “معجزة رقمية” تنتجها بيروقراطية عاجزة عن تعميم حتى الكهرباء والماء في بعض المناطق؟

“P2P” وأوهام الثقة: حين تتقدم التقنية ويتخلف الإنسان

أثار الخبير الاقتصادي عبد العزيز كوكاس نقطة مفصلية قائلا: التكنولوجيا ليست مشكلًا، بل الإنسان هو المشكلة.
حيث أظهرت التجربة الرقمية نجاحًا في اختبارات الأداء والتكلفة، لكن التحدي الحقيقي يتمثل في بناء الثقة في النظام المالي، في وقت أكثر من 40% من المغاربة لا يملكون حسابًا بنكيًا، حسب أرقام البنك الدولي.
فهل يُعقل أن مواطنًا لا يثق في بوابة بنكية أو موظف في وكالة عمومية، سيُسلم دخله لرمز QR؟ وهل يمكن لأم أرملة في قرية نائية أن تدفع فواتيرها بـ”محفظة رقمية” دون شبكة إنترنت أو هاتف ذكي؟

زهير الخديسي: نحن نقترب… ولكن بأي ثمن؟

من جهته يعتبر الخبير المالي زهير الخديسي أن مشروع الدرهم الإلكتروني ناضج تقنيًا، بل ويعوّل عليه في تعزيز صورة المغرب كمركز مالي مستقر قبيل تنظيم كأس العالم 2030، لكن الخديسي لا يُخفي تحفظه من تجارب رقمنة سابقة باءت بالفشل، بسبب ما وصفه بـ”انعدام الثقة، ضعف التكوين، وهشاشة البنيات الرقمية”..
الدرس واضح: ليست التكنولوجيا من ينهار، بل البنيات والنيات.

رقابة أم خدمة؟ من محاربة التهريب إلى تتبع جيوب المواطن

لا يخفى أن أحد الأهداف غير المعلنة من الدرهم الإلكتروني هو تعزيز قدرة الدولة على مراقبة حركة الأموال ومحاربة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، خاصة في ظل الضغوط الدولية.

لكن السؤال الجوهري: أين يتوقف الأمن وتبدأ الخصوصية؟

هل ستتحول هذه العملة إلى وسيلة جديدة لملاحقة المواطن البسيط، في حين تبقى الثروات الكبرى والمتهربون الضريبيون في مأمن؟ وهل نحتاج إلى تكنولوجيا لتضييق الهامش المالي على الفقراء، أم إلى إرادة سياسية لإخضاع الكبار للمساءلة؟

رقمنة بلا عدالة = واجهة زجاجية لبيت من ورق

ما يغيب في هذا المشروع رغم جمالياته التكنولوجية هو البعد الاجتماعي.
فالحديث عن “الشمول المالي” يبدو فكاهيًا في بلد لا يزال فيه مئات الآلاف من المواطنين خارج التغطية الصحية، والتعليم الجيد، والخدمات العمومية الأساسية.
وعليه، فالدرهم الرقمي لن يكون سوى صورة “HD” لأزمة هيكلية لم تُحل بعد، بل يتم الآن تغليفها بمفردات مثل “بلوكتشين” و”محفظة ذكية” و”نظير إلى نظير”.

هل نحن أمام تقدم تقني أم ترقيع اجتماعي؟

الدرهم الإلكتروني ليس مشروعًا ماليًا فحسب، بل هو مرآة لمدى قدرة الدولة على دمقرطة المال، وتحقيق عدالة رقمية حقيقية.. فإن لم يُرفق بتكوين، وبنية تحتية، وعدالة ضريبية، ومؤسسات جديرة بالثقة، فسيتحول إلى مجرد رقم جديد في قائمة “الإصلاحات الكبرى” التي غالبًا ما تتكسر على صخرة الواقع المغربي.

فالمغاربة لا يحتاجون فقط إلى عملة رقمية، بل إلى نظام يُقنعهم بأن الدولة تراهم، وتحترم ذكاءهم، ولا تستخدم التكنولوجيا كـ”كاميرا مراقبة” بيد بيروقراطية لا تثق فيهم أصلاً.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى