الرئسيةرأي/ كرونيك

في خلفيات دعوات المغرب المتكررة للحوار مع الجزائر

ثمة تساؤل مشروع حول دعوة المغرب الجزائر كل مرة للحوار لحل المشكلات العالقة، دون أن تظهر مؤشرات على إمكان نجاح هذا المسعى، وهل يفعل ذلك من باب الإقناع المتكرر بأنه لا خيار للبلدين سوى الحوار المباشر، بحكم أن كل المشكلات العالقة بينهما بما في ذلك مشكلة الصحراء، حلها بين يدي الطرفين، لا بيد أي طرف آخر، أم يفعل ذلك من باب الإحراج السياسي والدبلوماسي حتى يظهر المغرب أمام المنتظم الدولي بأنه الأكثر رغبة في الحل الدبلوماسي، مع أن الأمر يخص سيادته ووحدته الترابية، أم أنه يفعل ذلك من قبيل إقامة الحجة تحذيرا من سيناريوهات قد تضر بالجزائر في حالة التعنت ؟

مبدئيا، ليس ثمة فروق كبيرة بين سياسة الملكين الحسن الثاني ومحمد السادس بهذا الخصوص، فقد فتح الملك الحسن الثاني الحوار مع الجزائر، وتفاوض مع جبهة البوليساريو ودخل معها في تفاصيل كثيرة تهم نمط الحكم الذاتي، وحدوده، وتوزيع المسؤوليات بين المركز والإقليم.

سياسة الملك محمد السادس لم تتغير عن سياسة والده بهذا الشأن

لم تتغير سياسة الملك محمد السادس بإزاء مد اليد للحوار، لكنه أخذ مسارا مختلفا منذ السنوات الأولى لحكمه، فاتجه لبناء شراكات متعددة في إفريقيا، بدءا بدول غربها، ثم وسطها وجنوبها وشرقها، ثم أعطى اهتماما كبيرا بمنطقة الساحل جنوب الصحراء، حتى صار الفاعل الأكثر مصداقية بين دول المنطقة، ثم أنهى سياسة الكرسي الفارغ، وقرر العودة إلى الاتحاد الإفريقي، بعد انسحاب سلفه من منظمة الوحدة الإفريقية سنة 1984.

الفارق بين سياسة الملكين، أن الأول راهن على الحوار السياسي والدبلوماسي كمدخل للحل، بينما ورث محمد السادس تقييما أساسيا من سلفه، أن هذا الخيار غير مثمر في ظل موازين قوى متكافئة مع الجزائر، الدولة النفطية، التي تستعمل ثروتها الطاقية، للامتداد بسلاسة في القارة الإفريقية. ولذلك تغيرت رؤية الملك العملية، فاتجه إلى تقوية موقعه داخل القارة الإفريقية، مراهنا على القوة الاقتصادية والشراكات الرابحة بين البلدان الإفريقية، ثم التحرك الدبلوماسي النشط باستعمال أوراق مختلفة، لحشد الدعم الدولي لمبادرته في الحكم الذاتي.

جاء خطاب العرش الأخير ليكرر نفسها الدعوة للحوار مع الجزائر

وهكذا بقي الملك محمد السادس متمسكا من حيث المبدأ بفعالية الخيار السياسي والدبلوماسي، وبتجديد الحوار مع الجزائر، لكنه لم يباشر سياسة مد اليد بشكل صريح ومباشر سوى سنة 2018، ثم بدأت هذه الدعوة تتكرر إلى أن جاء خطاب العرش الأخير، وتمت الدعوة مرة أخرى إلى حوار صريح وأخوي صادق مع الجزائر للتوصل إلى حل لا غالب فيه ولا مغلوب.

تحليل سياقات دعوات المغرب للحوار مع الجزائر قد يسهم في إيضاح الخلفيات بشكل أكثر وضوحا، فالأمر يتعلق بثلاث محطات أساسية، سنة 2018، وسنة 2021، 2025.

الجزائر، لا تعلق بشكل رسمي على الدعوة للحوار، لكن من الملاحظ جدا، أنها تختار الرد بطريقة غير مباشرة، إما بتصريحات تكرر فيها تمسكها بتقرير المصير وخيار الاستفتاء لحل نزاع الصحراء، أو تسلط الضوء على استقبال رسمي لزعيم جبهة البوليساريو، أو يظهر من كثافة التناول الإعلامي الرسمي على الخصوص، خطا يفسر دعوة المغرب للحوار على أنه «أسلوب المخزن في تحويل نقطة ضعفه إلى قوة من خلال المناورة».

مستقبل الاقتصاد والتجارة للقوى الدولية هو في القارة الإفريقية، لكن الطريق إليها يمر باستقرار منطقة الساحل جنوب الصحراء

في الواقع، ينبغي أن ننتبه إلى أنه ما بين 2018 و2021، قررت السلطات الجزائرية قطع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، معللة ذلك بحيثيات يعود بعضها إلى محطات تاريخية سابقة مثل حرب الرمال سنة 1963، ويتعلق بعضها الآخر بما اعتبرته الجزائر أعمالا عدائية ضدها.

جزء من العدوات بين المغرب والجزائر يغذيها عدو مشترك للبلدين

هناك مفارقة غريبة يصعب فهمها، فقد جاء قرار قطع العلاقات مع المغرب بعد أقل من شهر من دعوة الملك محمد السادس في خطاب العرش الجزائر إلى حوار من دون شروط، وانتقد إغلاق الحدود بين الشعبين، وأنه لا منطق معقول يبرر توتر العلاقات بين البلدين، مطمئنا الجزائر بخصوص مخاوفها من فتح الحدود (المخدرات، الإرهاب، الهجرة، التهريب)، ومؤكدا بأن العصابات التي تغذي هذه المخاوف هي عدو مشترك للبلدين.

وتزيد المفارقة، إذا ما استحضرنا حدث الكركرات، وكيف عملت البوليساريو بدعم جزائري على تطويق هذا المعبر ومنع التجارة الخارجية منه لدول إفريقيا، وكيف تدخل الجيش المغربي، بعد تحرك دبلوماسي مغربي هادئ وواسع، من تطهير المعبر ومحيطه وتأمين حرية تنقل الأشخاص والبضائع، بين المغرب وموريتانيا.

هاتان المفارقتان، تستدعيان ربما البحث في السياق الدولي والإقليمي أكثر من التماس الدواعي والخلفيات في المواقف المتبادلة.

هذا الخيار في التفسير يعطي إمكانات واسعة، منها أن المغرب دعا للحوار مع الجزائر سنة 2018 قبل أن يضطر للتوجه لخيارات أخرى، والأقرب إلى المنطق، أنه كان بصدد إقامة الحجة عليها قبل التوجه إلى خيارات أخرى، وقد أثبتت الوقائع، ان الحوار مع واشنطن الذي أثمر اتفاق التطبيع سنة 2020، بدأ بشكل مبكر من خلال جاريد كوشنر صهر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، والأقرب إلى المنطق، أن حدث الكركرات ترك تداعيات خطيرة، وبدأ المغرب يستشعر التهديد الأمني والعسكري من تطور مناورات الجزائر ولذلك أراد أن يختبر الفرصة الأخيرة قبل المضي إلى خيار الضرورة.

المستهدف فعليا من التهديد الإقليمي هي الجزائر

الدعوة للحوار في المرة الثانية، جاءت في واقع الأمر من تغير التقدير المغربي الاستراتيجي، إذ أصبح المستهدف بالتهديد الإقليمي هي الجزائر نفسها ليس من جهة المغرب، ولكن من جهة فقدان الجزائر لجوار مهم بسبب الانقلاب العسكري في مالي والذي دشنت فيه قيادة الجيش، سياسة جديدة بعيدا عن الجزائر، وبدأت مؤشرات توتر عميقة بين البلدين بسبب دعم الجزائر للأزواد، ورهان الجيش المالي على روسيا، لفرض السيادة على الشمال.

هذا التقدير المغربي تعزز أكثر، مع الانقلاب العسكري في النيجر، في 26 يوليو 2023، وبروز بوادر خلافات عميقة مع الجزائر، تلتها صدمة تعرضت لها الجزائر شهرا بعد ذلك، إذ أعلنت جنوب إفريقيا عن ست دول وجهت لها الدعوة للانضمام للبريكس ليست بينها الجزائر وبروز مؤشرات توتر في العلاقة بين الجزائر وروسيا.

هذه الحيثيات، في واقع الأمر، كانت سببا مباشرا، لتوجه المغرب، إلى إطلاق المبادرة الأطلسية في نوفمبر 2023، والتي استهدفت دول منطقة الساحل، من خلال تمكينها من الواجهة الأطلسية، واعتماد مقاربة التعاون الأمنية المشتركة، لتقوية العلاقات مع هذه الدول بدلا من اعتماد الأبعاد الأمنية والعسكرية للتعاطي مع دول المنطقة.

كانت هذه المبادرة جوابا على فقدان الجزائر للمبادرة الاستراتيجية في منطقة الساحل جنوب الصحراء، وأنه لم يعد لها سوى الخيار الموريتاني، لإفشال هذه المبادرة، على اعتبار أن الجغرافيا تحكم على هذه المبادرة بالفشل في تخلف نواكشوط عنها.

ومع تواتر المبادرة الجزائرية تجاه موريتانيا، نجحت المغرب في سياق شراكة واسعة، من جر نواكشوط لمربع المشاريع الضخمة في المنطقة.

جعوة الحوار تتزامن مع ازياد الحشد الدولي لدعم المبادرة المغربية للحكم الذاتي

الدعوة الأخيرة للحوار جاءت في سياق جد واضح، إذ تزامنت مع زيارة مسعد بولس كبير مستشاري الرئيس الأمريكي للمنطقة للوساطة بين البلدين لحل نزاع الصحراء، وتزامنت أيضا مع ازدياد الحشد الدولي لدعم المبادرة المغربية للحكم الذاتي بعد تغير موقف كل من بريطانيا والبرتغال.

فالمغرب، هذه المرة، لا يقيم الحجة على الجزائر، ولا يكتفي بمد اليد، ولكنه يريد أن يوجه الرسالة الأخيرة قبل فوات الأوان، ومضمونها أن الحل كان بيدنا منذ سنوات طويلة، وان تضييع هذه الفرصة هو الذي سمح بتدخل القوى الدولية، وأن بالإمكان اليوم إنهاء النزاع دون أن تضطر الجزائر لتقديم صفقات وامتيازات كبيرة لواشنطن بغية الإبقاء على الوضع السابق، وذلك لأن رؤية واشنطن والمجتمع الدولي لحل النزاع في الصحراء، صار يتساوق مع الرؤية المغربية، وأن مستقبل الاقتصاد والتجارة للقوى الدولية هو في القارة الإفريقية، لكن الطريق إليها يمر باستقرار منطقة الساحل جنوب الصحراء، وذلك لا يتم من غير حل نزاع الصحراء، ضمن السيادة المغربية.
المصدر: القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى