
جائزة ابن رشد للوئام: من قرطبة للرباط..جسور الحوار والتعايش
في سياق يزداد فيه العالم حاجة إلى تعزيز قيم الحوار والتفاهم المشترك، تطلق جمعية “الصداقة الأندلسية-المغربية (منتدى ابن رشد)” مبادرة ثقافية ذات دلالة عميقة، من خلال تنظيم حفل تسليم “جائزة ابن رشد للوئام” .
يُشكل هذا الحدث الذي يستضيفه مدرج “الشريف الإدريسي ” بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط يوم الخميس 2 أكتوبر على الساعة الرابعة مساء، لحظة استثنائية تجمع بين الفكر والذاكرة والتواصل الثقافي، وتربط الماضي بالحاضر في رحلة متواصلة من قرطبة إلى الرباط.
تكريم شخصيات
مؤسسات في خدمة التعايش
تؤول الجائزة في هذه الدورة إلى شخصيتين بارزتين جسّدتا، كل بطريقته، قيم الحوار وبناء الجسور.. الأولى هي المترجمة والباحثة “مليكة امبارك لوبيث”، التي كرّست مسارها العلمي والثقافي لخدمة الترجمة باعتبارها أداة للتواصل وتبادل الرؤى بين المغرب وإسبانيا، و من خلال أعمالها، أسهمت امبارك في تعريف القارئ الإسباني بالفكر المغربي وبالتراث المشترك بين الضفتين، كما ساعدت في إثراء المكتبة العربية والإسبانية بأعمال مترجمة ذات قيمة فكرية وإنسانية.
أما الجهة الثانية المكرَّمة فهي “الشركة الوطنية للإذاعة والتلفزة المغربية (SNRT)” ، التي لم تقتصر مهمتها على البث الإعلامي، بل جعلت من منصاتها فضاء للتقارب الثقافي وإبراز التعددية المغربية كجسر للتواصل مع الآخر.
يأتي هذا التكريم كإعتراف بدور الإعلام العمومي في ترسيخ قيم العيش المشترك ومواجهة الانغلاق الثقافي.
فلسفة الجائزة: إرث ابن رشد الحي
لا تأتي جائزة ابن رشد للوئام كتقليد شكلي أو احتفاء رمزي، بل كفعل ثقافي يستمد روحه من فلسفة ابن رشد، الفيلسوف الأندلسي الذي دعا إلى المصالحة بين العقل واللغة والعيش المشترك.. فهي تُذكّر بأن “المعرفة لا تُبنى في غياب الحوار” ، وأن “الحوار لا يكتمل دون عدالة” ، وأن “العدالة تفقد معناها إن لم تتأسس على التعارف المتبادل” .
بهذا المعنى، تحمل الجائزة وعدًا متجددًا لا يقتصر على تكريم الماضي، بل يفتح الأفق أمام مستقبل يكون فيه الاختلاف مصدرًا للثراء الإنساني، لا سببًا للتنازع أو التباعد.
إنها رسالة تؤكد أن الحرية تظل قرينة للمعرفة، وأن الثقافة قادرة على إعادة صياغة علاقتنا بالآخر في إطار من الاحترام المتبادل والانفتاح.
من عبد القادر الشاوي إلى ثرفانتس: مسار متواصل
جدير بالذكر أن الدورة الأولى من الجائزة منحت للكاتب المغربي “عبد القادر الشاوي“، تقديرًا لمساهمته في إثراء الفكر المغربي والإسهام في الحوار الثقافي. كما آلت الجائزة أيضًا إلى “شبكة معاهد ثرفانتس في المغرب” ، التي لعبت دورًا محوريًا في مد جسور التواصل الثقافي بين الضفتين من خلال أنشطتها وبرامجها التعليمية، يعكس هذا الاختيار بجلاء توجه الجائزة نحو تكريم الأفراد والمؤسسات التي تجعل من الثقافة أداة لتقوية الروابط الإنسانية والفكرية بين المغرب وإسبانيا.
البعد الرمزي: من قرطبة إلى الرباط
يحمل عنوان هذه الدورة “من قرطبة إلى الرباط، مسارات التفاهم” دلالة رمزية قوية.. فقرطبة، التي كانت في زمن ابن رشد منارة للتعايش بين الديانات والثقافات، تعود لتطل بروحها على الرباط، عاصمة المغرب اليوم، التي تحاول بدورها أن تكون فضاءً للحوار والانفتاح، هذا الربط بين المكانين ليس مجرد إشارة تاريخية، بل هو دعوة إلى استلهام الماضي لبناء مستقبل منسجم، تتعايش فيه الشعوب على قاعدة المعرفة والعدالة والاحترام المتبادل.
الحدث مفتوح أمام العموم
ما يميز هذا الحدث أنه لا يقتصر على النخب الأكاديمية أو الثقافية، بل يفتح أبوابه للجمهور الواسع، فالدعوة عامة، ما يعكس رغبة المنظمين في جعل الجائزة لحظة مشتركة تعني الجميع، ومناسبة لترسيخ قناعة مفادها أن “ثقافة الحوار ليست امتيازًا لفئة دون أخرى، بل مسؤولية جماعية” ،
وعد يتجدد
جائزة ابن رشد للوئام ليست محطة تكريمية عابرة، بل هي مشروع فكري وثقافي متجدد يسعى إلى جعل الحوار قيمة يومية، والاختلاف مصدرًا للإثراء الإنساني، فبتكريمها لمليكة امبارك وللهيئة الوطنية للإذاعة والتلفزة، تُؤكد أن بناء الجسور بين المغرب وإسبانيا ليس خيارًا ثقافيًا فحسب، بل ضرورة حضارية تستجيب لتحديات الحاضر وتفتح آفاق المستقبل. إنها رسالة واضحة بأن المعرفة بلا حوار تبقى ناقصة، وأن الحوار بلا عدالة يظل هشًا، وأن العدل لا يستقيم إلا في ظل التعارف والاعتراف بالآخر.