الرئسيةالكتابذاكرة

«Voyage,, au-delà des nuits de plomb»: شهادة تتحوّل إلى مرآة متشققة للتاريخ

سينظم يوم الخميس 23 أكتوبر على الساعة السادسة تقديم كتاب «Voyage,, au-delà des nuits de plomb، تحت إشراف الشاعر صلاح الوديع، وبحضور كاتب الكتاب نورالدين سعودي، بالمركب الثقافي أنفا زنقة أحفير بالدارالبيضاء على الساعة السادسة مساء.

تحرير: جيهان مشكور

لايكتب نور الدين سعودي، مجرد سيرة اعتقال؛ هو يقدّم شهادة مركبة تجمع بين التوثيق والاحتجاج  والبحث عن معنى إنساني للتجربة.

يضع الكتاب، بصيغته الفرنسية، و عنوانه الرمزي، القارئ وجهاً لوجه مع زمنٍ لا يجوز نسيانه: سنواتٌ اتسمت بالقمع، و بالعنف المؤسسي، وبمحاولات طمس الذاكرة..

لكن ما يميّز هذا العمل ليس فقط ما يرويه من أحداث، بل ما يحمله بين السطور: فهو قراءة في صناعة الخوف، في آليات الإقصاء السياسي و مؤشرات عن طريقة عمل الدولة في ذلك الزمن، عن ديناميكيات المقاومة داخل السجون، وعن العلاقة بين الفرد والجماعة حين تُقاس الكرامة على مقياس المعاناة.

الاعتقال كمرآة: ما الذي يكشفه السجن عن المجتمع؟

سجون درب مولاي الشريف، غبيلة، والقنيطرة ليست مجرد مواقع اعتقال بالنسبة لسعودي، بل مختبرات عارية تكشف عن بنية علاقة السلطة بالمواطِن؛ حيث تصبح القوانين مرنة والعدالة غائبة والإنسان عرضة لأنصاف معايير تُقرر خارج المحاكم وبعيدًا عن أعين المجتمع.

تكشف القراءة بين سطور السرد شعوراً عميقاً بالإنهاك لا يخص ضحايا العنف فحسب، بل يمتد إلى نسيج وعيٍ وطنيٍ مُستنزف: كيف يمكن لدولة أن تُبقي على صورة السيادة، إذا كانت تمارس سياساتها عبر الاعتقال التعسفي والتغييب؟ سعودي لا يجيب صراحة، لكنه يفعل ما هو أهم: يوثّق، ويسلّم الأرشيف النفسي والروحي للمجتمع كي لا يعود السؤال مجرد نقد بل دعوة للمساءلة.

السجن كمختبر للإنسانية والمقاومة: قراءة في البنية الاجتماعية للسجن

ما يبرز في السرد هو أن سجون درب مولاي الشريف، غبيلة، والقنيطرة ليست مجرد مواقع اعتقال بالنسبة لسعودي، بل مختبرات عارية تكشف عن بنية علاقة السلطة بالمواطِن، علاقة لم تستطع إخماد إنسانية المضطهدين بل حولتها إلى تجربة اجتماعية بديلة.. حيث تشكلت داخل الزنازين، أشكال من التضامن والفنون والخلق الثقافي لشعر، و للرسم، و التأليف داخل الزنازين، كأن السجن أفرز مجتمعه المصغر الذي يحاول أن يعيد ترتيب القيم في مواجهة محاولات النزع الوحشي لكرامة و الإنسانية.

فحتى الإضراب عن الطعام لمدة 45 يوم سنة 1979 و الذي سجله الكاتب كخطوة بطولية لم يكن مجرد تحدٍ جسدي، بل ممارسة سياسية رمزية: تم فيها تحويل الجسد إلى محفل احتجاجي يُعيد تأكيد-subjectivity—حق الإنسان في الوجود أمام آلة القهر..

هنا، المقاومة لا تُقاس فقط بنتائجها المباشرة ولكن بمدى قدرتها على الحفاظ على كينونة المعتقلين وأدوات تواصلهم الإنسانية.

الذاكرة الجماعية والواجب الأخلاقي للكتابة

يحاول سعودي بكتابه إحياء الذاكرة؛ ليس فقط التوقف عند الحزن أو الشكوى، بل ليطالب بـ”لا للنسيان” كشرط لبناء مستقبل ديمقراطي.. يحمل هذا الموقف بعداً أخلاقياً: فالكتاب يؤسس لمنطق أن الاعتذار، والاعتراف، والمساءلة ليست رفاهية وإنما واجب تجاه من تضرروا ومن أجل صحة الوعي الوطني..

من هنا يظهر الكتاب كأداة ضغط أخلاقية أكثر من كونه مجرد سرد، فهو يضع القارئ أمام سؤال: كيف يمكن لمجتمع أن يسوّي حساباته مع ماضيه دون أن يفتح جروحاً تجدد القسوة؟ سعودي لا يعطي وصفة جاهزة، لكنه يضع اللبنات الأولى للحوار.

اللغة والأسلوب: صدق لا يميل إلى التمثيل

يميل أسلوب سعودي في الكتاب إلى الواقعية والنزاهة في السرد، هذا الاختيار الأسلوبي ليس تكتيكًا أدبيًا فحسب، بل قرار سياسي: فأن تُعرض المعاناة بحقيقتها دون تهويل أو تبسيط يُحصّن الشهادة من اتهامات التشويه أو الإجحاف..

قراءة ما بين السطور تكشف تقنيات سردية تُجمّل الألم دون أن تُجمِّل القهر؛ أسلوبٌ يلتقط اللحظات الصغيرة لكرامةٍ إنسانية، لابتسامةٍ سرّية، و لحرفٍ مكتوبٍ تحت ضوء شمعةٍ، كأنما يريد المؤلف أن يقول إنَّ الخسارة ليست سطحيّة وحدها، بل هناك ثمن باقٍ يجب الاعتراف به. هذا الاتزان يجعل الكتاب مرجعاً أولياً لمن يريد فهم تجربة السجون السياسية من الداخل، لكنه أيضاً يجعل قراءته مرهقة عاطفياً لما يحمله من صور قاسية.

محدوديات العمل: ماذا لم يقل الكاتب صراحة؟

بينما يُقدّم الكتاب خليطاً قوياً من شهادة شخصية وتحليل اجتماعي محدود، تبرز بعض الفجوات.. فالقراءة النقدية تكشف أن ثمة أسئلة لم تُناقش بعمق: التحولات المؤسسية التي تلت تلك الحقبة، مسؤوليات محددة داخل أجهزة الدولة، وكيفية حدوث التحوّلات التي أدّت لاحقاً إلى سياسات الإصلاح (إن حدثت)، أيضاً، ثمة غياب شبه تام لتحليل معمّق للدوافع الأيديولوجية لكل من جانب السلطة والمعارضة في تلك الحقبة؛ فسعودي يركز على التجربة الإنسانية والذاكرة، لكن القارئ الباحث عن تفسير سياسي-مؤسسي أوسع قد يحتاج إلى مراجع إضافية..

هذه الفجوات ليست عيباً بحد ذاتها، لكنها تحيل إلى إمكانات للعمل المستقبلي: كتب نقدية وتحقيقيات تقرأ الشهادة في سياقها السياسي الكامل.

الرسالة الأخلاقية والإنسانية.. الكرامة قبل الأيديولوجيا

أمام قسوة التاريخ، يصرّ الكتاب على أن إنسانية الفرد تبقى فوق كل تصنيفات أيديولوجية، فسعودي يذكرنا أن الضحايا كانوا أناساً لهم أسماء وحيوات وأحلام، وأن المطالبة بالعدالة ليست انتقاماً سياسياً بل استعادة لكرامة إنسانية، فهذه الرسالة لا تقتصر على الماضي، بل إنها تضع معياراً أخلاقياً للحاضر والمستقبل:” أن تُبنى السياسات على أساس احترام الكرامة الإنسانية، وأن تستند الذاكرة إلى مبادئ تجعل من العدالة محوراً لا يتجزأ”،

بين النداء والدفتر المفتوح

«Voyage … au-delà des nuits de plomb» عمل يتجاوز السرد الشخصي ليصبح جزءاً من أرشيف جماعي يطالب بالاعتراف والعدالة والذاكرة..

نور الدين سعودي لا يصرّح بصيحات مطلقة، لكنه يفتح دفتر الأسئلة الذي على المجتمع أن يقرأه بعين لا تكتفي بالمشاهدة العابرة..

إذا كان الهدف من الكتاب أن يجعل الحرية أكثر، وعياً بذكرياته، فقد نجح.

وإذا كان علينا أن نمنحه وظيفة إضافية، فهي أن يكون نقطة انطلاق لحوار وطني جاد حول كيف نُعالج الأذى، كيف نُقّيم المساءلة، وكيف نُعيد بناء مشهد سياسي مبني على احترام إنسانية المواطن قبل أي اعتبار آخر.

اقرأ أيضا…

كتاب لنور الدين سعودي يسترجع ذكريات الاعتقال السياسي ويكشف عن الحياة وراء الأسوار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى