
الخيبة جاءت من الداخل..لماذا لم أتحزب!؟
بقلم الصحافية هدى سحلي
بحوزتي عشرون بطاقة طلب انخراط، موزعة بين حزب وقطاع شبابي، حصلت على الأولى عام 2006. كل بطاقة تحمل اسمي وتوقيعي وتاريخا قديما لرغبة مؤجلة.
كنت أملؤها بحماسة، ثم أضعها في الرف، وأقول في نفسي: “دعني احتفظ بها الآن حتى أتأكد أكثر، ثم سأودعها المقرّ.”
تردّد كبير يسكنني
لكنني لم أفعل. بقيت البطاقات حبيسة رفوف الخزانة، كما لو كانت رموزا صغيرة لتردّد كبير يسكنني.
منذ ذلك العام وأنا أعبر المقرات الحزبية كزائرة مألوفة لا تنتمي. أحضر اللقاءات، أستمع للنقاشات، ثم أعود إلى نفسي خفيفة من أي انتماء. كان النقاش ممتعا في بدايته، محفّزا للعقل، لكنه لم يمس قلبي. ربما لأنني لست من هواة الجدل الطويل، بل من الذين يصدقون فقط ما يرونه يتحرك على الأرض.
تعلمت النضال في جمعية صغيرة بحي شعبي اسمها الانطلاقة للطفولة والشباب، ومنها كانت انطلاقتي، بأدبيات التربية الشعبية لا بشعارات الأيديولوجيا، بآليات العمل عن قرب لا بالخطابات.
فهمت السياسة كما تُمارس لا كما تُنظّر
هناك، فهمت السياسة كما تُمارس لا كما تُنظّر. كنا نحلم ونخطط ونعمل، دون أن نحتاج إلى
إلى مفردات مثل “المخزن” و”القمع” و”الحكرة”. كانت تلك الكلمات أكبر من عالمنا الصغير، لكننا كنا نمارس مقاومتها بالفعل لا بالقول.
بعد سنتين من العمل في الجمعية، أصبحت كاتبة عامة لها، لم أكن “القيادة”، بل مجرد حلقة في خلية نحل بلا ملكة. كنا نعيش تجربة ديمقراطية حقيقية لا تحتاج إلى ميثاق أو قانون داخلي. ديمقراطية تُمارَس بالثقة، وتُبنى بالمجهود الجماعي لا بالتصويت، وكانت علاقاتنا الإنسانية طيبة ومثالية.
تلك كانت أجمل سنواتي، لأنها علمتني أن الفعل أبلغ من البيان، وأن الناس حين يعملون بإخلاص، يغنون عن كل تنظير.
في موازاة ذلك، كنت أقترب من الفعل الحزبي. تطوعت في انتخابات 2007 لمراقبة مكاتب التصويت باسم الحزب، ثم ارتدت الجامعة، وهناك التقيت برفيقات ورفاق حملوا الحلم نفسه: أن يتغير هذا البلد.
كنت أؤمن بالعمل الحزبي، أدافع عنه بشراسة أمام من يسخر منه داخل الحركة
تشاركنا حماسًا واحدًا، وحين انطلقت حركة 20 فبراير، وجدنا أنفسنا مرة أخرى في الساحة، بنفس الوجوه تقريبا، ولكن بأسماء جديدة للحلم.
كنت أؤمن بالعمل الحزبي، أدافع عنه بشراسة أمام من يسخر منه داخل الحركة وحتى إن كنت لا أنتمي له. كنت أراه الطريق لبناء الديمقراطية. والجسر بين الديمقراطية التشاركية والديمقراطية التوزيعية.
لكن الخيبة جاءت من الداخل، من أولئك الذين جعلوا من الشعارات عباءة تخفي جمودهم.
في الاجتماعات، كانت القرارات تُهرّب خلسة، والجمع العام يتحول إلى مسرح بلا روح.
هناك، تلقيت أولى صدماتي بين القول والفعل، لمست شعرة معاوية بين الديموقراطية والاستبداد، وكانت حسرة كبيرة أن لا نعرف كيف نكون ديموقراطيين.
ومع ذلك، لم أفقد إيماني بفكرة التنظيم. في 2012، دعاني بعض الرفاق للمساهمة في تأسيس تيار داخل الحزب. تحمّست، وتوليت الجانب التواصلي، ونظّمنا الجامعة الربيعية. كان الحماس يشبه بداية حب جديد، لكنه لم يدم طويلا.
في أول اجتماع لوضع خطة العمل، اقترح برنامج ميدانيا مستوحى من تجربتي في المجتمع المدني لتفعيل بعض التوصيات. قال أحدهم بنبرة خفيفة لكنها جارحة:
“داكشي ديال المجتمع المدني ديالك ما لايقش هنا.”
حينها صمتُّ. وشعرت، للمرة الأولى، أنني غريبة في بيت كنت أظنه بيتي.
توالت الاجتماعات والنقاشات والمداولات، حتى صارت الدائرة مغلقة على ذاتها: اجتماع يتبعه لقاء، واللقاء يولّد جامعة، والجامعة تنتهي بتوصيات تحتاج لاجتماع جديد.
قلت في إحدى المرات: “لقد دعوتموني لحضور اللقاء معكم، انصت لكم فماذا أجد: نديرو اجتماع، الاجتماع هو غادي نهضرو ثم نقرر عقد لقاء كجواب على النقاش في الاجتماع ، وما هو اللقاء ، اجتماع موسع أي نقاش موسع، بعدها عقد جامعة وهي اجتماعات ولقاءات ونقاشات موسعة، سنخرج بتوصيات يلزمها اجتماع ونقاش وهكذا دواليك، واش حنا غادي تبقاو غير ناقشو”
نسخر وفي السخرية حسرة
ولازالت هذه الجملة ترافقني كلازمة كلما التقيت بالرفاق يكررونها على مسامعي كنوسطالجيا ونسخر وفي السخرية حسرة.
عندها، أيقنت أنني لا أملك طاقة هذا الشكل من النضال، وأن مكاني الطبيعي هو حيث أستطيع أن أتحرك بحرية: في العمل الجمعوي، وفي مهنتي التي اخترتها عن قناعة الصحافة(وهذا موضوع آخر).
في نفس المرحلة، كان النقاش حول تجميع أحزاب اليسار ومرت السنوات وجاءت فدرالية اليسار الديمقراطي، فاستيقظ الأمل قليلا، لكنه ما لبث أن انكسر كسابقيه.
أدركت أن المشكلة ليست في الأفكار، بل في الإنسان حين يضيق بالتنوع والاختلاف.
اليوم، ما زلت أؤمن بالأحزاب، وأحترم من اختار طريقها وصبر على تعقيداتها، لكنني اخترت أن أبقى على الهامش الحر، ش لا يدجنني انتماء، ولا تقيدني تبعية.
سأظل أحضر لقاءاتهم حين أستطيع، وأصغي إليهم بصدق، وأنتقدهم إن اقتضى الأمر، من موقعي كفاعلة مدنية، لا تنتمي إلا لفكرتها.
لست ضد التنظيم، بل مؤمنة بأنه أرقى ما أبدعته الإنسانية لإحقاق الديمقراطية. لكنني ببساطة، لم أجد بعد التنظيم الذي أستطيع أن أتنفس داخله.
أرى تنظيمات حزبية تتحول إلى زوايا وقيادات لا يزيحها الا ملك الموت
لاطاقة لي في نقاشات طويلة لا تنتهي، ولا طاقة لي لصراعات تنظيمية، ولا مصلحة في مهمة تنظيمية أكثر ما تجيب عنه، حاجة نفسية.
والأهم لا أريد أن أفقد خيط الأمل الذي احتفظ به، وأنا أرى تنظيمات حزبية تتحول إلى زوايا وقيادات لا يزيحها الا ملك الموت.