
اجتمع رئيس الحكومة عزيز أخنوش مع رئيس الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها، محمد بنعليلو يوم الثلاثاء 21 أكتوبر 2025 ، في لقاء قُدم على أنه خطوة لإحياء ورش مكافحة الفساد وإعطائه “نفساً جديداً”. غير أن هذا “النفس” يبدو في نظر كثيرين أقرب إلى محاولة إنعاش مشروع يعيش غيبوبة طويلة أكثر مما هو انطلاقة فعلية لإصلاح جذري. فبين الخطاب المتفائل والواقع المعقد، تتجدد الأسئلة حول جدية الدولة في مواجهة ظاهرة تنخر مؤسساتها من الداخل.
مؤشرات النزاهة تكشف هشاشة المنظومة
إذا كان اللقاء مناسبة لإعادة التأكيد على التزام الحكومة بمسار الشفافية، فإن الأرقام المتداولة حول وضع المغرب في مؤشرات الفساد تبقى مقلقة..
فبعد أكثر من عقد من إطلاق الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد، لم يتمكن البلد من تحقيق تقدم يعتد به، ففي ترتيب النزاهة وتراجع المغرب بعدة مراكز حيث لم يخرج من خانة القلق: مؤشر مدركات الفساد لهيئة Transparency International يمنح المملكة درجة متواضعة — 37 نقطة حسب آخر تحديث على موقع المنظمة، ما يضع المغرب في مرتبة متأخرة (التصنيف 99 من أصل 180 دولة في أحدث تصنيف متاح)، ما يعني أن التحدي ليس في صياغة الخطط بل في تنفيذها، فالقوانين وُضعت، والهيئات أُنشئت، واللجان شُكلت، لكن المواطن لا يلمس تغيّراً في الخدمات، ولا يشعر بأن المال العام أصبح في مأمن من العبث.
الاستراتيجية الوطنية… إنجازات على الورق
تتحدث الحكومة عن نسبة إنجاز مرتفعة في مشاريع الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد، لكن النسبة وحدها لا تكفي لإقناع الرأي العام، فالمؤشرات الميدانية تكشف بطء التنفيذ وغموض النتائج، إذ لم تظهر بعد آليات واضحة لتقييم الأثر أو قياس التقدّم..
ويبدو أن جزءاً من الجهد الحكومي يتركز على تلميع الصورة أكثر من معالجة الاختلالات البنيوية في تدبير الشأن العام، خصوصاً في مجالات الصفقات العمومية والعدالة والقطاع الصحي.
الأكاديمية والمختبر والحلول الرقمية… أفكار لامعة بفعالية محدودة
من بين المشاريع التي ناقشها اللقاء إحداث أكاديمية ومختبر و”حاضنات رقمية” للنزاهة، وهي مبادرات تبدو عصرية في ظاهرها، لكنها تصطدم بالسؤال الجوهري: هل التكنولوجيا قادرة على إصلاح منظومة ينخرها فسادا بنيويا؟ فالمشكل لا يكمن في نقص الأدوات، بل في غياب الإرادة السياسية والرقابة الصارمة، وتداخل المسؤوليات حد من مسؤول عن من؟، إذ، الحديث عن حاضنات رقمية يجب أن يقترن بخريطة تمويل شفافة، بمنهجية مستقلة لجمع البيانات، وبآليات حماية للمبلغين عن الفساد.. من دون ذلك ستتحوّل المبادرات إلى «نماذج عرضية» تضفي على المشهد طابع الحداثة دون المساس بالجذور.
اللجنة الوطنية لمكافحة الفساد… وعود مؤجلة
أكد رئيس الحكومة على ضرورة عقد اللجنة الوطنية لمكافحة الفساد قريباً لتقييم الاستراتيجية وتحديد الرؤية المستقبلية، لكن عبارة “قريباً” تكررت كثيراً في الخطاب الرسمي دون أن تتحول إلى أفعال.. فغياب مواعيد محددة ونتائج ملموسة يجعل من هذه الوعود أشبه بجلسات رمزية لتخفيف الضغط أكثر من كونها محطات محاسبة حقيقية.
المجتمع المدني… الغائب الحاضر
الحديث عن إشراك المجتمع المدني في مكافحة الفساد يتكرر في كل مناسبة، لكنه يظل غالباً مجرد شعار بروتوكولي، فالمجتمع المدني لا يُمكّن من الولوج إلى المعلومات ولا من تتبع مسارات الإنفاق العمومي، فالمنظمات التي تشتغل في مجال محاربة الفساد تشتكي من غياب الدعم المؤسسي، ومن تضييقٍ يجعل من “المشاركة” شعاراً سياسياً أكثر منها ممارسة فعلية.
بشكل ملموس، نحن أمام مصادقة مجلس النواب في 20 مايو، على مشروع “المسطرة الجنائية” بعد مناقشات وأخذ ورد بين مكونات الأغلبية والمعارضة، ومع ذلك لا يزال الجدل يلاحق هذا المشروع وخاصة المادتين الثالثة والسابعة منه.
وتنص المادة الثالثة على أنه “لا يمكن إجراء الأبحاث وإقامة الدعوى العمومية في شأن الجرائم الماسة بالمال العام، إلا بطلب من الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض بصفته رئيسا للنيابة العامة، بناء على إحالة من المجلس الأعلى للحسابات أو على طلب مشفوع بتقرير من المفتشية العامة للإدارة الترابية أو المفتشيات العامة للوزارات أو من الإدارات المعنية، أو بناء على إحالة من الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها أو كل هيئة يمنحها القانون صراحة ذلك”.
أما المادة السابعة فأعطت حق وضع الشكايات للجمعيات المعترف لها بصفة المنفعة العامة والحاصلة على إذن للتقاضي من وزارة العدل، وعنى ذلك في ظل معضلة المعضلات منع عشرات الجمعيات من وصل الإيداع القانوني، ووجود كثير من العقبات لمنح صفة المنفعة العامة نكون أمام منع صريح وواضح للجميعات لمراقبة صرف المال العام وحمايته من السرقة والنهب.
80 في المائة من شكايات المواطنين لا تجد طريقها إلى المتابعة أو التحقيق
خلاصات أولية في المشهد: ثقة تستنزف وورش لم يكتمل
لقاء أخنوش وبنعليلو أعاد التذكير بوجود مؤسسات تُعنى بالنزاهة، لكنه لم يقدّم جديداً في مضمون المعركة ضد الفساد، فالمواطن ينتظر إجراءات ملموسة تُعيد الثقة في الدولة، لا تصريحات عامة حول “نفس جديد”.
فالإصلاح لا يتحقق بالبلاغات ولا باللجان المؤجلة، بل بإرادة حقيقية تتجسد في قرارات شجاعة، ومحاسبة صارمة، وشفافية في تتبع المال العام.. بدون ذلك، سيبقى الفساد في المغرب كالأخطبوط الذي يغيّر شكله في كل مرحلة، لكنه لا يبرح مكانه.
القطع مع الفساد في ظل ترابطه مع الاستبداد
والقطع مع الفساد في ظل ترابطه مع الاستبداد، لا يمكن تصوره إلا بفك هذا الارتباط من خلال فصل حقيقي للسلط، وربط المسؤولية بالمحاسبة، ومن خلال القطع مع اقتصاد الريع، والزواج غير الشرعي بين المال والسياسة، وغيرها من الإجراءت التي في عمقها حلولا سياسية جدرية.
إن المؤسسات الدستورية ومنها الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها، ومدى استقلاليتها، باتت بعد التجربة تطرح إشكالات دستورية وقانونية، خاصة لجهة العلاقة مع باقي السلط، ومنها السلطة التنفيذية، لنتذكر في هذا الإطار، مسار مغادرة محمد البشير الراشدي لمنصب رئاسة هذه الهيئة، إذ و منذ الأيام الأولى لتعيينه من طرف الملك، واجه تحديات كبيرة، لكنه تمكن من تحويل المؤسسة الدستورية من مجرد مؤسسة شكلية إلى هيئة رقابية فاعلة، حيث لم تتوانى في الكشف عن مكامن الخلل والفساد في المغرب، اخرها تقرير 2023 الذي أفاض الكأس، وأدى أن ينتهي مسار الرجل للاستبعاد، حيث سيستظم بشكل واضح مع المصالح الحكومية، خصوصاً مع عزيز أخنوش رئيس الحكومة، وارتفاع منسوب تضارب المصالح داخلها.