مجتمع

رحيل عميد الفكر العربي الطيب تيزيني… الفلسفة في مواجهة الهزائم

عبدالرحيم تفنوت

لم ينتبه إلا القليلون منا إلى تلك الصدفة اللماحة، التي قضت أن تكون سنة حصول هذا المثقف العضوي على شهادة دكتوراه في الفلسفة من الجامعة الألمانية،  هي سنة هزيمة دول” الجامعة العربية” في ثاني مواجهة مع كيان دولة إسرائيل العسكري…بعد نكبة التقسيم في نهاية الأربعينيات!!!.

لكن ماهو أهم في هذه النازلة- وعلى عكس العديد من المثقفين العرب الذين قرروا الرحيل واعتناق المنفى بعيدا عن هذا الذي سيسمى بالجرح التاريخي- هو اتخاذ هذا “الطيب” قراره الحاسم بالعودة إلى “سورياه ” و”شامه” ليستأنف معنى الوجود الوطني الجديد، معلنا أن الفلسفة التي أصبح واحدا من مواطني مدنها المتفرقة، هي أداته الفعالة لفهم هذا الذي جرى، هذا الزلزال المدمر لكل المشاريع الفكرية التي تراكمت وتوالت على الساحة الثقافية والسياسية العربية، وكذا لما سيسمى بنية النظام السياسي السلطوي العربي…

في مواجهة هذا الانهيار الذي دوخ كل عقول المثقفين العرب،  باشر الرجل في حياته تنفيذ مهمتين متلازمتين، تعليم الفلسفة في جامعة دمشق، وإطلاق الروح في سلسلة من البحوث والدراسات الفلسفية الكبرى، سلسلة لم تتوقف  إصداراتها إلا برحيله الحزين..

وفي هذا الباب عاكس صاحب “مشروع رؤيا جديدة..”مرة أخرى التيار الغالب في محيطه العربي المشرقي، فعوض أن يتوه العقل في داخله بحثا عن أجوبة ثقافية للسقوط العربي في مهاوي الماضوية لتاريخية العروبية أو في براثن الانكماش اللاهوتي الذي لخص الهزيمة بكونها عقابا دنيويا على تخلي الأمة عن عقيدتها الصافية وعن عصرها الذهبي المنسحب..فعوض هذا الضياع كله تشبث دارس الفلسفة الألمانية بضرورة الرجوع إلى الفلسفة عوض اللاهوت، وبضرورة الانضباط لأحكام الدرس التاريخي الإنساني الذي يجبر كل من يبحث عن  الحقيقة أن يفهم ويدرك أن الحقيقة لا توجد إلا في دياليكتيك الزمن البشري، وفي تفاصيله القريبة والبعيدة التي تلخصها إجمالا علاقة الدولة بالمجتمع في أوضاع تاريخية محددة…

إن من يعود إلى لائحة الإصدارات التي أنتجها هذا العقل النقدي المتحرك، سيلمس منذ كتابه “المجادل” من التراث إلى الثورة- حول نظرية مقترحة في التراث العربي ” سنة 1976، أن الهزيمة وأسباب حدوثها أصبحت هوسه اليومي وأرقه الذي لا يرتفع، كما سيلمس من خلال ما سيقترحه هذا الحلبي “الشقي” من مشاريع جديدة في النظر إلى أحوال الدولة والمجتمع، أنه سار مقتنعا بأن تدشين قطائع كبرى في فكر العرب والمسلمين سار ضرورة قصوى حتى يغادروا ضعفهم وتخلفهم…وهو عند هذا الجزم المنهجي، سيلتقي، بجيل من رواد المشارقة والمغاربة في نفس المرحلة، على نفس القناعة وعلى نفس اتجاهات التحليل…

ولا غرابة حينما نكتشف أنه في الوقت الذي أصدر فيه كتابه الحامل لعنوان مثير “تمهيد في الفلسفة العربية الوسيطة” سنة 1971، كان المفكر عبدالله العروي  يتلمس هو الآخر طريقه إلى بناء أطروحته الأولى لفهم حالة الفكر العربي بعد نكسته، والتي ضمنها في مؤلفه النظري النقدي الأول “الايديولوجية العربية المعاصرة “…

وهو الإنتاج المعرفي الذي سيكون له ما بعده حتى اليوم… ومن موقع آخر قريب من اختصاص العميد الراحل، سينطلق عقلان آخران للتحليق في سماء الفلسفة العربية الإسلامية، واحد في لبنان، إبن جبل عامل الفقيه/الفيلسوف اللبناني الشهيد”حسين مروة”صاحب الرحلة المنهجية الماركسية الصريحة في إتجاه البحث عن “النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية”… والثاني إبن منطقة من أقصى شرق المغرب الفيلسوف/المعلم صاحب كتاب “نحن والثرات” ،الذي سيستعرض فيه نفس الأسئلة التي ملكت روح الطيب الفيلسوف، لكن من زاوية قراءة في التراث أرادها أن تكون مغربية، تمتح خصوصيتها من الفكر الرشدي الذي يعتبره الجابري في كل أبحاثه واحدة من “اللحظات الضائعة ” في تاريخ هذه الأمة التي بدأت تباشير هزائمها منذ سمحت باستقالة “عقلها” في مقابل التشبت والانتصار “لنقلها” الجامد المتحجرة…

                     

في هذا الزمن الجدلي الولادة للفكر المعنى اقترح آلراحل على نخب أمته برنامجا نظريا هائجا مائجا بالتنقيب والبحث والنبش والهبش، عبر قراءة المئات من الوثائق والنصوص، وعلى امتداد تأريخ طويل، لا يبدأ بأثينا/اليونان وما اعتبره الغرب فيها أنها منطلق الفلسفة والتفلسف، بل إنه سافر في المثون بعيدا إلى حيث تاريخ ماقبل اليونان، وماقبل العصور الوسيطة، حيث سيقف عند مشاهد من ديالكتيك التاريخ وهو يصنع الحضارات والأديان والعلوم والفلسفات والسياسات والتقنيات والحروب والسلم الانتصارات الهزائم….والمعنى…

وكانت تلك ميزته البيداغوجية في جل أركان بحوثه وموضوعاتها التي لم يقبل أن يختارها من دواليب السهولة النظرية…وذلك لسبب بسيط، هو أن هذا الحمصي العنيد قد استوعب ،أمام زلازل هزائم ونكبات الأمة، ما معنى أن تكون عالما بالمعنى الباشلاري للكلمة، وما رمزية أن تكون مثقفا عضويا وباسم الفلسفة ،لا باسم الأساطير الضعيفة والأحاديث المختلة عقليا، وهذا ما جعله منذ كتابه الكبير “مشروع رؤية جديدة للفكر العربي في العصر الوسيط ” يتحمل مسؤولية مزدوجة، اجتهاد بعلم، ومواقف بدون جهل وخوف…ولعل أولى القلاع السلطوية في مجال المعرفة التي راح يصوب نحوها سهامه هي قلعة اللاهوت الأرضي والسماوي..التي قرأ فيها عنوانا كبيرا لهشاشتنا وتخلفنا منذ قرون…

لعمري تلك شجاعة مابعدها شجاعة، ولا يمكن إدراك وزنها إلا حين نستحضر السياقات والتواريخ وحجم العوائق السياسية والعقدية والنفسية لأمة مثل هذه الأمة التي هو ابنها ونحن احفادها المعذبون إلى اليوم…هذا اليوم الذي تداخلت فيه الكوارث الوطنية والقومية والاممية، وباع فيه جزء ليس باليسير نفسه وروحه ، إما لمراكز الاستعمارات الجديدة، أو لأ نظمة السلطوية النفطية الغازية أو لجحافل الدول التي يغتني ملوكها ورؤساؤها من ريع ميتروبولات المال والسلاح… هذا هو اليوم الذي نحن في حضرته وفي حضرة تقلباته الهوجاء، التي علينا استيعابها وفهمها ومصارعة نتائجها بنفس طويل اداته المعرفة والعلم وأخلاقه العلمانية والنسبية والايمان بكونية إنسانية، قعرها الديمقراطية وسقفها الكرامة والحرية لكل الناس والاجناس … فسلام على روح من علمنا تهجي الفلسفة كخلاص للعقل ،ومنذ أن كنا صغارا ، وحيث الظلمة كانت تسطو على الأدمغة والقلوب، والاستبداد يعلو ولايعلى عليه…. فسلام لك، وشكرا لك ألف مرة وحتى نلتقي بعد حين…

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى