مجتمع

حدود المغرب الكبير: هل ستبقى غبية إلى يوم الدين؟

نزار بولحية: كاتب وصحافي من تونس

يقول مسؤولون إسبان عن منظومة الحدود الجديدة التي سينصبونها قريبا فوق جزء من تراب المغرب، إنها ستكون ذكية لأنها ستسمح لهم» بمراقبة المهاجرين الراغبين في اجتياز الجدارين الآمنيين (بمدينتي سبتة ومليلية المحتلتين) والتصدي للإرهابيين وشبكات الجريمة المنظمة» بشكل أفضل من الموجود، ولكن إن كان ما سيفعلونه في الجيبين السليبين نوعا من الذكاء الخارق، أليس ما يحصل في باقي الأراضي المغاربية المحررة شكلا، أو حتى المنهوبة فعلا، هو الغباء بعينه، حيث يعامل العدو هناك معاملة الصديق، وتعلو الحصون والأسوار بوجه الشقيق، فيما تشرع الأبواب أمام المحتل والغريب، وكأنها جعلت للترحيب فقط بمن ينتهك الحرمات في واضحة النهار، بلا حسيب ولا رقيب؟
لقد تحدث الإسبان الأربعاء الماضي بفخر عن تلك المنظومة الذكية، وتكلم مغربي في اليوم نفسه بألم وحرقة عن جزء من تلك المنظومة الغبية، التي لاتزال تمنع المغربي عن الجزائري والجزائري عن المغربي. وربما لم يسمح له منصبه بأن يقول عنها إنها بلهاء، رغم أنها تكرم وتبجل وتعلن الحروب باسم الدفاع عن حوزتها، ويصل الأمر بالرسميين لحد تقديسها.

غير أنه لا أحد كان يشك في أن تلك الحدود المغاربية المقصودة بالعبارة، التي رسمت معالمها وتفاصيلها أقلام رصاص فرنسية وإيطالية وإسبانية، حين اقتسم سادة «العالم الحر» الغنائم والثروات في عصر الإمبراطوريات الاستعمارية الكبرى، ظلت تجلب في معظم المرات لأبنائها الفواجع والنكبات، وتمنحهم في أدنى الحالات وبتقتير وشح شديدين بعض المزايا والمنافع والفوائد المحدودة، بل تحولت إلى قنبلة موقوتة قابلة للانفجار في أي وقت قد تأخذ فيه الحمية الوطنية حاكما فيهب مطالبا جاره الشقيق تلميحا أو تصريحا، بمراجعة خط من خطوطها، أو إعادة ترسيمه من جديد.

وفيما كانت حرب الرمال بين الجارتين المغرب والجزائر الشاهد الأقوى على ذلك، كادت في فترات أخرى خلافات تونس وليبيا وتونس والجزائر، والآلام والتوترات التي رافقت ولادة موريتانيا، والتعقيدات التي شهدها ما بات يعرف بملف الصحراء، أن تكون الشواهد التالية عليها. وبالطبع لم يكن محو كل تلك الخطوط والرسوم الهلامية وشطبها، أو حتى تجاهل كل تلك الأسلاك الشائكة، التي انتشرت على امتداد رقعة عريضة من الأرض، التي كانت ممتدة ومفتوحة، والقفز فوقها سهلا وممكنا.

المشكل لا يقتصر على الحدود المرسومة التي لم تقم الحكومات على مدى أكثر من خمسين عاما بأي جهد حقيقي للاستثمار فيها بل تلك الحدود المنسية والمنهوبة، فمن وضع تلك الفيروسات في الجسد المغاربي الواحد، لم يكن مستعدا ليقدم لسوء حظ المصابين، الترياق الذي يشفي منها، أو يكفل القضاء المبرم عليها، كلما تحولت إلى وحش كاسر ينهش الأرواح ويقصف الآمال والأحلام والتطلعات.

ولعل وصفة الشفاء تلك، افتقدت بشكل واضح في حالة الحدود المغربية الجزائرية المغلقة من الجانبين منذ أكثر من عشرين عاما. فلم يجد الشقيقان اللدودان بعد علاجا مناسبا يريحهما ويرحم شعبيهما والمنطقة من لعنة الغلق المستمر لمعابرهما البرية. ومع ذلك فقد استمرا يرددان صباح مساء أنهما يتطلعان بصدق لفتحها، حتى إن ظل تحديد الموعد مجهولا ومشروطا، وبقي الطرفان رغم كل شيء يقولان أن لا رفض للفكرة من حيث المبدأ، على الأقل، ويعتبران أن إعادة فتحها ستكون ضربا لعصفورين بحجر واحد، وتحقيقا لأمرين اثنين، وهما رغبة وتطلع شعبيهما والحاجة والمصلحة الوطنية القريبة والبعيدة لهما في الوقت نفسه أيضا.

ولكن حتى إن ثبت ذلك نظريا فقد تأكد الجمعة الماضية أن بعض ذلك الكلام الحلو والمنمق، حول النوايا والآمال يصطدم بصخرة صماء هي، حرص الطرف المقابل على أن لا يتدخل أحد في ما يراه شؤونه الداخلية. فقد سارع الناطق الرسمي باسم الحكومة المغربية يومها ليعيد الأمور إلى نصابها، ويذكر بأن المشاعر والامنيات شيء ومنطق الدولة وسياساتها ومواقفها شيء أخر.

وكان كلامه قاطعا، فما نقله بعض الصحافيين الاربعاء الماضي عن سعدالدين عثماني في مأدبة الإفطار التي أقامها لهم من أنه قال إن «علاقة المغرب بالجزائر ستكون أفضل مما كانت عليه في عهد النظام السابق» وإن «المنطق يقول بأن أول قرار يجب أن يتخذ من طرف فريق الحكم الجديد في الجزائر هو فتح الحدود مع المغرب». لم يكن تصريحا رسميا حول الجارة الجزائر، ولم يعبر عن أي موقف للحكومة المغربية مثلما أكد المتحدث الرسمي لوكالة انباء المغرب العربي، بل إن الرجل لم يوجه كما اضاف المتحدث نفسه «أي نداء، وإنما عبر عن أمنيته بفتح الحدود بين البلدين، وذلك في حديث خاص على هامش مائدة افطار»، ما يعني أنه لم يكن مناسبا أن يفتح الموضوع من أصله، ربما في هذا الظرف الذي لم تتضح فيه بعد مآلات الحراك الجزائري.

لكن متى كان التعبير عن تلك الأمنية البسيطة التي يتقاسم الجزائريون والمغاربة الحلم بها، يثير كل تلك الحساسية ويطلق العنان لغضب وتصلب إضافي، يجعل الطرف المقابل يتمترس بقوة وراء مواقفه القديمة، بل يصر على الثبات عليها، وعدم التزحزح عنها؟ هل كان الأمر متعلقا بكسب نقاط في المنازلة المفتوحة بين الجانبين؟ لعل ما قاله مصدر دبلوماسي لصحيفة جزائرية في سياق التعليق على تصريحات عثماني من أن «سياسة الجزائر الخارجية لا تتغير بتغير المسؤولين، وأن المشكلة بين الجزائر والمغرب عميقة، وهي أكبر من قضية الحدود، وأن المسؤولين الجزائريين لا يفكرون إطلاقا في موضوع إعادة فتح الحدود البرية مع المغرب، لا اليوم ولا غدا، إلا إذا استجاب النظام المغربي لشروط الجزائر»، يؤكد على تفاقم أزمة الثقة بين الجانبين، وكيف أن كلمة واحدة تقدر أن تعيد الأمور بسرعة إلى نقطة الصفر، فيما تعجز بالمقابل كل الجمل والعبارات على تحريكها والتقدم بها إلى الأمام.

وليس الموضوع هو تحميل طرف دون الآخر مسؤولية ذلك، أو القاء اللوم على جهة بعينها، لان جميع المغاربيين من بنغازي إلى نواق الشط يتحملون ولو قسطا من ذلك، ويدفعون الضريبة الأعلى له ولعل الحدود المغربية الجزائرية ليست سوى الشجرة التي تحجب الغابة. فالمشكل لا يقتصر على الحدود المرسومة التي لم تقم الحكومات على مدى أكثر من خمسين عاما بأي جهد حقيقي للاستثمار فيها، بما يقرب الشقيق من الشقيق، ويؤلف بين أفراد شعب واحد في دول عدة، كما يحلو للمسؤولين أن يقولوا عن المغاربيين، بل ايضا على تلك الحدود المنسية والمنهوبة. فمن مازال يذكر سبتة ومليلة والجزر الجعفرية المحتلة، ويعرف حتى مجرد المعرفة شيئا عما فعلته ايطاليا في تونس، وكم جزيرة نهبتها واحتلتها وحولتها إلى فردوس أوروبي، يموت آلاف التونسيين وغير التونسيين في رحلة الوصول إليه؟ لا شك أن الصراع الأعمى على كسب تلك الحدود الغبية والاكتفاء بالتمترس خلفها، لم يسمح برؤية أشياء كثيرة قد لا تكون تلك المنظومة الذكية للإسبان فوق التراب المغربي، سوى جزء بسيط منها. لكن إلى متى سيستمر ذلك وهل إنه كتب على الحدود المغاربية أن تبقى غبية إلى يوم الدين؟ الله وحده يعلم.

المصدر: القدس العربي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى