عِبَر الطاعون الجارف في زمن كورونا
على الرغم من كون الحدث التاريخي لا يعيد نفسه ولا يتكرر، لأنه مرتبط بسياقات وظروف إنتاجه، فإن أحداثا تاريخية معينة تكون في كثير من الأحيان حبْلى بالعِبر والدروس، نستحضرها لإضاءة العتمات في حاضرنا.
ونحن نعيش في زمن جائحة كورونا، يستوقفنا الطاعون الجارف، الذي ضرب المغرب، ومختلف مناطق المعمور، خلال منتصف ق8هـ / 14م، ووثقه العديد من المؤرخين والرحالة والفقهاء والأطباء… الذين عايشوه في كتاباتهم من بينهم ابن خلدون، لسان الدين بن الخطيب، ابن خاتمة وابن بطوطة…
تعددت تسميات الحدث والأوصاف التي أطلقتها الأستغرافيا الوسيطية على ذلك الوباء من قبيل: الطاعون الجارف، والطاعون الأعظم، والطاعون العام، والطاعون الكبير، والوباء الأكبر، والوباء العام… وكلها صفات وأسماء تبرز هول وجبروت ما حدث، وتداعياته على الدول والعمران والبشر، يقول ابن خلدون في هذا الصدد: “…وأما لهذا العهد وهو آخر المائة الثامنة فقد انقلبت أحوال المغرب، الذي نحن شاهدوه وتبدلت بالجملة… ما نزل بالعمران شرقا وغربا في منتصف هذه المائة الثامنة من الطاعون الجارف الذي تحيَّف الأمم وذهب بأهل الجيل، وطوى كثيرا من محاسن العمران ومحاها، وجاء للدول على حين هرمها ببلوغ الغاية من مداها… وانتقص عمران الأرض بانتقاص البشر”.
وإذا كانت بعض الكتابات التاريخية قد تضمَّنت الحديث عن الطاعون، في معرض تدوينها للوقائع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدينية لتلك المرحلة التاريخية، فإن هناك من أفرد مؤلفات خاصة بالطاعون الأعظم، ومنهم الطبيب الأندلسي ابن خاتمة الأنصاري في كتابه “تحصيل غرض القاصد في تفصيل المرض الوافد”، والمؤرخ والطبيب الأندلسي لسان الدين بن الخطيب في “مقنعة السائل عن المرض الهائل”.
وأورد ابن خاتمة نقلا عن أحد التجار أن موطن ظهور هذا الطاعون العام هو الصين، “وقد اختلف الأمر في مبدإ هذا الحادث من أين ابتدأ ظهوره، فذكر لي الثّقة عن بعض تجار النصارى القادمين علينا بالمرية، أن ابتداءه كان ببلاد الخِطا. وبلاد الخِطا بلسان العجم هي بلاد الصين”. لكن ما لبث أن أصبح الوباء عالميا، متنقلا عبر السفن القادمة من الشرق نحو الغرب، إذ تفشى في الحوض الغربي من البحر الأبيض المتوسط، بما في ذلك المغرب سنة 749 هـ / 1348م، ويوضح ابن الخطيب ذلك في قوله: “فحرز ما هلك من نوع الإنسان به في هذا الوقت المحدود بسبعة الأعشار، ولم يتقدم فيما اتصل بأولي الاطلاع من تواريخ الأمم خبر وباء بلغ حسب مبلغه من أخذه مابين لابتي المشرق والمغرب، واتصاله بالجزائر المنقطعة في البحر واستئصاله أهل البيت والقرية… يتعلق بالناس تعلق النار بالحلفاء والهشيم”.
كانت رحى الوباء قاسية، تطحن أعدادا كبيرة من البشر، فأفاد الرحالة ابن بطوطة أن الطاعون حصد في يوم واحد المئات، بل الآلاف من الأرواح أثناء مشاهدات،ه وزياراته لمناطق بالشرق الإسلامي: ففي أوائل شهر ربيع الأول من سنة 749 هـ في غزة أزيد من 1000 نسمة، وحمص 300 نسمة، وفي أواخر ربيع الثاني 2000 هالك في دمشق و24.000 بمصر والقاهرة.
في حين سجل ابن خاتمة في كتابه الطبي “تحصيل غرض القاصد في تفصيل المرض الوافد ” نقلا عن ألسنة الثقات ارتفاع ضحايا الوباء الأكبر لسنة 749هـ في الغرب الإسلامي فروى: أنه هلك في يوم واحد بتونس 1200 نسمة، وتلمسان حوالي 700 نسمة، وبلنسية في يوم العنصرة 1500 نسمة، جزيرة ميورقة (24 ماي) 1250نسمة، وألمرية 70 نسمة.
وإذا كان ابن خاتمة وابن بطوطة قد استخدما في تعداد وفيات الطاعون الأعظم معجما غنيا بدلالات الموت والهلاك، فما يسترعي الانتباه عند حديث كل من القاضي والمؤرخ الأندلسي أبي الحسن النباهي ولسان الدين بن الخطيب عن ضحايا الطاعون من أهل الأندلس هو استخدامهما لمفهوم “شهيد الطاعون”، فأورد أبو الحسن النباهي في كتابه “المرقبة العليا فيمن يستحق القضاء والفتيا” قوله: “توفي القاضي أبوعبد الله محمد بن أحمد الطنجالي ببلده مالقة وقُبر بها شهيدا بالطاعون”.
كما تردد ذلك عدة مرات في تراجم علماء وأدباء وفقهاء ومفكري الأندلس خاصة في كتاب” الإحاطة في أخبار غرناطة ” لما تحدث ابن الخطيب عن وفاة شهيد الطاعون أبي عبد الله محمد بن أحمد بن قاسم الأميي المعروف بالقطان من أهل مالقة. وكيف لا؟ وهو الذي اعتبر في أكثر من مناسبة الطاعون وقيعة للتعبير عن صدمة الوباء وكأنه حرب أو قتال: “توفي (الشاعر الأندلسي: قاسم بن محمد بن الجد العمري) في وقيعة الطاعون”. ففي يوم واحد كان يتم دفن أزيد من 1000 هالك إذ يشير أبو الحسن النباهي وابن الخطيب إلى أن جنازة القاضي الأندلسي أبي جعفر أحمد بن محمد بن أحمد الأموي صحبها ركب من الأموات يزيد عن الألف. وهو ما صوره ابن خلدون في رحلته وحديثه عن هذا الوباء الجارف الذي لم يترك في طريقه إلا الموت والفناء فقال: “… إلى أن كان الطاعون الجارف، وذهب بالأعيان والصدور، وجميع المشيخة، وهلك أبواي رحمهما الله…”
لم تكن هناك آليات فعالة أو أساليب للحجر الصحي، تُوقف زحف الطاعون الذي عرَّفه ابن خاتمة بحمَّى خبيثة ودائمة، فقد اعتبره ابن الخطيب مرضا حادا له العديد من المضاعفات مستندا على عدة براهين لإثبات وجود العدوى وانتقال المرض من شخص إلى آخر عبر مباشرة المريض أوملامسة ثوبه أوآنيته أوزيارة مسكنه… وذلك باعتماد التجربة والاستقراء والحس والمشاهدة والأخبار المتواترة. وشخَّص الطبيب ابن خاتمة ذلك بقوله: “… وجدتُ بعد طول معاناة أنَّ المرء إذا ما لامس مريضًا أصابه الداء وظهرت عليه علاماته، فإن نزف الأول دمًا نزف الآخر، وإن ظهر في الأول ورم ظهر في الآخر -أيضًا- في المكان نفسه، وإن تكوَّنت قروحٌ سال منها قيح في الأول حصل للآخر مثله، وهذا سبيل انتقاله من المريض الثاني إلى الثالث”. فالوباء قتَّال سريع الانتشار، ويفْتِك كل من باشر مصابا ويسلم منه من لم يخالطه بل أكثر من ذلك يبيد – حسب ابن الخطيب – البيت بأسره والمدينة ووقوعه في الدار الواحدة يجعله مشتعلا في المباشرين للمريض ثم جيرانهم وأقاربهم وزوارهم . ولم تسلم من الطاعون العظيم – على رأي ابن الخطيب – سوى المناطق المعزولة والبعيدة عن الطرق والمنقطعة عن الناس أو البلدان التي اتجهت نحو إغلاق منافذها وعدم السماح بدخول أي قادم من البلاد الموبوءة. إلا أنه سرعان ما تنهار مقاومتها أمام الطاعون الجارف الذي ما إن يحل بمكان حتى يعم الهلاك ويحصد الأرواح، وهذا ما يبرزه ابن خاتمة في قوله: “واطلعت من حال البلدان التي حرص أهلها على أن لا يدخل إليهم أحد من بلاد الوباء وحافظوا على ذلك، أن استصحبوا السلامة زمانا حتى غُلبوا على ذلك. وإن أكثر أهل الحصون التي تلي المرية، ونزل بها هذا الحادث يؤرخون زمان نزوله بهم بقدوم فلان أو فلانة عليهم من بلاد الوباء وموته بين أظهرهم”. بل هناك من الأشخاص من أدرك انتقال المرض عبر العدوى، فاختار الابتعاد عن الناس كالزاهد ابن أبي مدين بمدينة سلا إذ ” تزود -على رأي ابن الخطيب- مدة، وبنى منزله على أهله، وهم كثيرون، وفنيت المدينة، ولم يرزأ نسمة واحدة بطول تلك المدة”.
إن اتخاذ الطاعون بعدا عالميا واستمراره في الغرب الإسلامي حتى سنة 750هـ/1349م رافقته مشاعر من القلق والخوف والاضطراب أمام ضعف القدرة في تلك المرحلة التاريخية على المواجهة مؤسساتيا وعلميا وطبيا… ويشير ابن بطوطة أثناء زيارته لدمشق سنة 749 هـ انخراط كل سكان دمشق بمختلف طبقاتها الاجتماعية: الأمراء والشرفاء والقضاة والعامة من الناس وفئاتها العمرية: الصغار والكبار من الذكور والإناث وطوائفها الدينية في الصوم ثلاثة أيام متتالية والابتعاد عن الأسواق والأكل فيها والتوسل إلى الله”… وباتوا ليلة الجمعة بين مصل وذاكر وداع، ثم صلوا الصبح وخرجوا جميعا على أقدامهم وبأيديهم المصاحف، والأمراء حفاة وخرج جميع أهل البلدة ذكورا وإناثا، صغارا وكبارا، وخرج اليهود بتوراتهم والنصارى بإنجيلهم ومعهم النساء والولدان. وجميعهم باكون متضرعون متوسلون إلى الله بكتبه وأنبيائه”. وهي صورة ناطقة بوسائل أخرى لمواجهة عدو واحد: الوباء العظيم الذي ذابت أمامه الفوارق الاجتماعية والعمرية والدينية عبر التقرب إلى الله صوما وصلاة وتضرعا.
لم يُحْدِث وباء الطاعون الذي اجتاح المغرب وباقي العالم نزيفا ديمغرافيا فقط من خلال تزايد أعداد الوفيات بشكل يومي، وإنما صاحبته الإخفاقات السياسية والصعوبات الاقتصادية والتحولات الاجتماعية التي ألقت بظلالها في كل مكان من: ضعف الدول والقبائل وتراجع الموارد المالية ودمار المدن والمصانع وانهيار الأنشطة الاقتصادية وغلاء الأسعار وركود العالم وفراغ الديار والمنازل… وهذا ما اعتبره المؤرخ ابن خلدون في شهادة حية وناطقة بالدلالات والمعاني العميقة نقطة تحول فارقة وإعلانا عن ميلاد عالم جديد حيث يقول:”…فخربت الأمصار والمصانع، ودرست السبل والمعالم، وخلت الديار والمنازل، وضعفت الدول والقبائل، وتبدل الساكن، وكأني بالمشرق قد نزل به مثل ما نزل بالمغرب… وكأنما نادى لسان الكون في العالم بالخمول والانقباض، فبادر بالإجابة. والله وارث الأرض ومن عليها، وإذا تبدلت الأحوال جملة، فكأنما تبدل الخلق من أصله، وتحول العالم بأسره، وكأنه خلق جديد، ونشأة مستأنفة وعالم محدث ”
لقد شكل اجتياح الطاعون رجَّة عظيمة في عالم منتصف القرن 8هـ/14م وتحولا نوعيا في التاريخ الإنساني فهل ستولد جائحة كورونا صدمة محفزة للتفكير في الماضي وفي وحدة المصير المشترك؟ وهل سننتصر بعد كورونا للقيم الإنسانية التي حاولت وتحاول هزم الجائحة بالتضامن والتطوع والتآزر والتكافل…؟ وهل نحن مقبلون بعد انتهاء الوباء على ولادة عالم جديد وإعادة ترتيب الأوراق بسقوط هيبة قوى مهيمنة في المجال العالمي وصعود أخرى؟ لنردد مع شيخ المحدثين والفقهاء والأدباء والخطباء بالأندلس أبي البركات بن الحاج البلفيقي بعد زوال غُمَّة الطاعون عن ألمرية:
شكرتُ الله شكرا لم يوَفِّي حقوقَ فَضَائل الوباء المباركْ
فكم غَسلَ السَّخائمَ من قلوبِ وعاوَنَ في حوائجِنا وشاركْ.
المراجع المعتمدة:
– أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن الخطيب السلماني، مقالة مقنعة السائل عن المرض الهائل، تحقيق وتقديم حياة قارة، ط 1، منشورات دارالأمان، الرباط، 2015 .
– أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن الخطيب السلماني،الإحاطة في أخبار غرناطة، ج 3- ج4 ، ط 1 ، تحقيق محمد عبد الله عنان، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1977 .
– عبد الرحمان بن محمد بن خلدون، مقدمة تاريخ ابن خلدون، ط 2 ،تحقيق خليل شحادة، مراجعة سهيل زكا، دار الفكر، لبنان، 1988.
– عبد الرحمان بن محمد بن خلدون، رحلة ابن خلدون ، تحقيق محمد بن تاويت الطنجي، ط 1، دار الكتب العلمية ، بيروت، 2004.
– شمس الدين أبي عبد الله محمد بن عبد الله اللواتي الطنجي، رحلة ابن بطوطة المسماة تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار، تحقيق عبد الهادي التازي، 1997 .
– أبو الحسن بن عبد الله بن الحسن النباه، المرقبة العليا فيمن يستحق القضاء والفتيا ،تحقيق لجنة إحياء التراث العربي، منشورات دار الآفاق الجديدة، بيروت، 1980 .
– أحمد السعداوي ، المغرب الإسلامي في مواجهة الطاعون الأعظم والطواعين التي تلته القرنين 8– 9هـ/14-15م Revue . IBLA. 19.t.58.n175