باهي وزمن القتلة!.. محمد باهي “عروة الزمن الباهي”…
محمد باهي هو أكبر اسم في تاريخ الصحافة الاتحادية على الإطلاق، ليس ذلك فقط، بل إنه استطاع أن يكون واحدا من عظماء “بلاط صاحبة الجلالة” على الخريطة العربية، وذلك بفضل عصاميته وقراءاته الغزيرة، لم يتوقف عن القراءة.
من كان يلتقي بمحمد باهي في باريس، كان لا يمكن أن يصادفه إلا وهو يحمل كيسا من الكتب الجديدة من ثمرات دور النشر الفرنسية.
ولما توفي ذات فجر بمصحة خاصة في الدار البيضاء، نعاه محبوه وقراؤه والمناضلون، وأيضا أصحاب المكتبات في فرنسا.
وكتب عنه الروائي العربي الكبير عبد الرحمان منيف كتاب “عروة الزمان الباهي”..
راكم باهي تجربة كبيرة منذ وصوله شابا إلى جريدة “العلم” في نهاية الخمسينيات، وكان من استقبله عند التحاقه بيومية حزب الاستقلال هو المهدي بنبركة، وبعد الانشقاق التزم مع صاحب “الاختيار الثوري”، وانتمى لفريق “التحرير”.
لم يجد عبد الرحمان اليوسفي، رئيس تحرير صحيفة “التحرير”، أفضل من محمد باهي للقيام بتغطية الحدث الكبير الذي عاشته الجارة الشقيقة الجزائر، فقد رحل المستعمر الفرنسي، فدخل محمد باهي مع أفواج المجاهدين وأعضاء جيش جبهة التحرير الجزائرية عبر وجدة.
أيامها لم يكن أنترنيت ولا فاكس، لكن مراسلات مبعوث “التحرير” كانت تصل يوميا عبر الحافلات والقطار وتنشر بالجريدة. ولم تمر فترة حتى أوقفت السلطات القمعية لسان الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، ولسان المقاومة وجيش التحرير والنقابة أيضا، واعتقل المدير ورئيس التحرير: محمد البصري وعبد الرحمان اليوسفي، وسيق إلى المخافر والسجون المئات من أعضاء الاتحاد، وقد حاصرت قوات القمع اجتماعهم التنظيمي في الدار البيضاء، وشمل التوقيف صحافيين كانوا يتابعون اللقاء، كان من ضمنهم رئيس تحرير يومية “ماروك أنفورماسيون” المستقلة، وكان هو السيد أندري أزولاي، المستشار الملكي حاليا، الذي لم يطلق سراحه إلا بعد مروره من كوميسارية المعاريف.
رحلة عمل كان مقررا لها بضعة أيام لنقل الصورة مباشرة من بلد المليون شهيد، فإذا بها تمتد وتتجاوز أكثر من عقدين، عاش خلالها محمد باهي حياة اللجوء بعيدا عن الوطن. وسيلتحق به رفاق اتحاديون، من بينهم مسؤلي “التحرير”: البصري واليوسفي، ولم تتوقف قافلة النازحين والهاربين من البطش والاعتقال والتعذيب. إنها سنوات الجمر والرصاص وقد أطلت بلهيبها الحارق.
في الجزائر سيساهم محمد باهي بحماسة في تطوير الصحافة ببلاد الأمير عبد القادر باللغة العربية، بعدها سيلجأ باهي إلى العاصمة الفرنسية، ليصبح من كبار مراسلي الصحافة المشرقية متخصصا وخبيرا في الشأن المغاربي، مثل مجلة “البلاغ”، و”السفير” البيروتيتين، وفي آخر سنواته تكلف بإدارة مكتب وكالة الأنباء العراقية في باريس، وكان معه الراحل محمد بنيحيى.
قصة استقالته من الوكالة العراقية قصة تحكى في مناسبة لاحقة.
في الوكالة العراقية “كان بحق مفخرة وقدوة في الانتماء القومي”، كما كتب صديقنا وليد عمر العلي، الذي اشتغل في الثمانينيات مديرا لمكتب نفس الوكالة في الرباط.
في المهجر كان محمد باهي هو من كتب العديد من الأدبيات التي صدرت عن اليساريين المغتربين، هو من كان يصيغ أجوبة الفقيه البصري ومحمد بنسعيد أيت يدر وغيرهما على أسئلة بعض الصحفيين التي تصل مكتوبة، كما كان يحرص الفقيه على ذلك.
وظلت “رسائله الباريسية” في الصحافة الاتحادية، (“المحرر”، “البلاغ المغربي”، الاتحاد الاشتراكي”)، تروي أسبوعيا ظمأ القراء في المغرب للكتابة الصحفية الجميلة، وكانت مليئة بالمعلومات وبالمحكيات الموثقة التي تساعد على تحليل وفهم ما جرى وما يجري.
بعد عودة عبد الرحمان اليوسفي إلى منصبه كاتبا أول للحزب واستلامه إدارة الجريدة، اتفق مع رفيقه محمد البصري على دعوة محمد باهي من فرنسا ليتحمل مسؤولية تحرير يومية الحزب، بعد تردد طال وصل باهي إلى مطار محمد الخامس ومنه إلى زنقة الأمير عبد القادر، حيث كان بانتظاره مدير يومية “الاتحاد الاشتراكي” الوزير الأول المقبل عبد الرحمان اليوسفي.
شرع محمد باهي في الترتيبات الأولى التي تمكنه من رسم خارطة الطريق التي سيمشي عليها من أجل تطوير الإعلام الحزبي الاتحادي، لكن كان عليه إزاحة بعض العراقيل وتنظيف الجريدة من بعض الأذرع المكسورة ممن وصلوا إلى الصحافة من دون دراية مهنية، وكانت “قدراتهم” هي الدس والنميمة، وهم من اصطفوا ضده.
كان لدى باهي مشروع لإعادة بعض الصحافيين ممن غادروا الصحافة الاتحادية، عقب اختلافهم مع بعض مواقف الحزب السياسية، وقرر التخلص من أسماء أخرى، فبدأ بواحد كان معروفا عنه كونه مخبر لدى الحاج المديوري، بالإضافة إلى افتقاره أن يكون مهنيا.
في ذلك اليوم تأخر باهي في الجريدة، وبعد أن غادر الجميع ذهب إلى القسم التقني وحرص شخصيا على نشر بلاغ قصير من أسطر قليلة في الصفحة الأولى، يوضح أن “محمد بوعبيد العامل بالقسم الرياضي، لم تعد له علاقة بالجريدة”.
ولم يغادر باهي حتى دارت المطبعة وأخذ معه نسخة من العدد، ليتجه إلى الجانب الآخر من المدينة، إلى حي بولو حيث كان يقيم كواحد من أهل الدار عند صديقه ورفيقه القديم محمد عابد الجابري.
لم يكن باهي يظن أنه سيكون آخر يوم له في زنقة الأمير عبد القادر، إذ سيعمل “أصحاب المدير السابق” (الذي لم يسلم مفاتيح الجريدة بعد قرار إبعاده، إلا مرغما)، واتصلوا بعبد الرحمان اليوسفي وحكوا له حكايتهم، فاستجاب لما أرادوا وألغى قرار الطرد في حق “العفطة” (اللقب الذي اشتهر به المعني)، وانتصر بذلك اليوسفي للذئاب والأذناب.
كان محمد باهي يعاني من ضغط الدم ومن مشاكل صحية تضاعفت بعد قرار التراجع عن قراره دون العودة إليه واستفساره ليشرح أسباب خطوته، لم يتحمل قلبه فأخذوه سريعا بسيارة إسعاف إلى مصحة خاصة في حي المستشفيات بالدار البيضاء، وظل هناك أياما قليلة أسلم بعدها الروح إلى باريها.
***
كنت من عواد محمد باهي مريضا، وفي الليلة التي سبقت موت باهي زرته مرة ثانية رفقة صديقي الصحافي حسن العلوي، زميل باهي القديم أيام “التحرير”. ولما صعدنا إلى الطابق الرابع من مصحة “الحكيم” واجهتنا ممرضة وأخبرتنا بلطف أن مريضنا نائم وأن طبيبه يشير إلى عدم إزعاجه وتركه للراحة.
أخذ حسن ورقة وكتب كلمة تضامن ومساندة، وأعطاها للممرضة، واسمها رحمة، على أن تسلمها لباهي لما يصحو.
ونحن ننتظر المصعد لنعود من حيث أتينا، فتح المصعد ليخرج منه أحمد المديني وعبد الجليل باحدو، تقدمت أنا وأشرت عليهما بالعودة، فالزيارة ممنوعة، وإذا بأحمد المديني الذي كانت بيده حقيبة صغيرة “سامسونيت” يصيح حتى سمعه من كان في الطابق الرابع، وكمن يؤدي دورا تمثيليا قال: (أنا طبيبه الخاص.. حضرت من باريس، كيف أمنع من زيارته؟).
لم تعرف الممرضة رحمة كيف تتصرف أمام هذا المشهد غير أن تقودنا إلى غرفة محمد باهي، ولم يكن نائما.
استقبلنا الباهي باسما، وطيلة أزيد من ساعة، كان هو المتحدث الوحيد المستأثر بالكلام، وحديثه كان حديث مغبون ومطعون. تكلم عن حياته وسيرته الأولى، مذ كان في موريتانيا المغربية وقتها، والتحاقه بجيش التحرير ووصوله إلى مراكش والدار البيضاء والرباط، ورحلاته الطويلة عبر المنافي. ومما قاله لنا، أنه كان بالإمكان أن يكون ضمن الضباط الذين أعدموا بعد عملية الانقلاب العسكري ضد الحسن الثاني في مستهل السبعينيات. إذ كان على وشك الانضمام من جيش التحرير إلى صفوف الجيش المغربي بعد الاستقلال.
لم يستسغ أبدا قرار اليوسفي بإرجاع مخبر صغير، وكسر قراره،
وعندما وصل محمد اليازغي إلى مصحة الحكيم ليعود محمد باهي، رفض صاحب “ذاكرة الرمال” استقباله أو رؤيته.
وعلمنا منه تلك الليلة أنها آخر ليلة له بالمصحة إذ كان يستعد للعودة إلى باريس لاستكمال الاستشفاء لدى طبيبه الفرنسي، وأن زوجته فاطمة أرسيم التي كانت تلازمه في المصحة راحت إلى البيت لإعداد حقائب السفر.
تمنينا له الشفاء العاجل مع وعد بأن نلتقي من جديد ونجتمع، كما حدث بعد عودته من المنفى في بداية الثمانينيات، حين نظم بعض الأصدقاء حفلا صغيرا على شرف محمد باهي ببيت الأخ المرحوم أحمد شاكر في عين الشق، وكانت سهرة حتى مطلع الفجر.
بعد كلمات الترحيب بالعائد وقف محمد باهي للرد على مرحبيه، وكانت المفاجأة هي أن صاحب “رسالة باريس” لم يلق كلمة تقليدية، بل ألقى معلقة امرؤ القيس كاملة وجلس. (من “قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل، إلى: “فَأَنزَلَ مِنهُ العَصمَ مِن كُلِّ مَنزِلِ”).
عند باب المصحة أخذ باحدو في سيارته الصديق المديني إلى بيت عابد الجابري في حي بولو، وذهبت أنا مع حسن العلوي إلى الساحة (مرس السلطان).
في بداية المساء التقينا مرة أخرى، أحمد المديني وأحمد الصبار وعبد الجليل باحدو وأنا، انتقلنا ما بين حانة “ميشيل” نافارو بزنقة أغادير، ومطعم “شاطوبريان” ببداية شارع رحال المسكيني، ثم ذهبنا إلى بيت على أطراف حي الألفة، وطيلة هذه الأمسية كان الموضوع هو ما يحدث في حزب الاتحاد الاشتراكي من صراع ودسائس. وكان المديني يصطف إلى جانب أصحاب اليازغي، أي في الصف الآخر لمحمد باهي، بل إنه كان يصف محمد باهي ب”البعير العربي”.
في الصباح الموالي، مبكرا سمعت نعي الباهي على أمواج إذاعة “ميدي 1″، فأبلغت شلة السهر بالفاجعة. لما وصلنا إلى باب المصحة وجدنا هناك بعض المناضلين، أتذكر منهم المناضل والشاعر محمد الوديع الأسفي، وأيضا كان نجم ناس الغيوان العربي باطما، الذي همس في أذني بحزن بالغ: “المرة الجاية نوبتي يا خويا عبد الرحيم”. وكان باطما يعاني من استفحال سرطان في الرئة.
وجاء من أخذ المديني إلى المجاز البلدية حيث مكاتب الجريدة.
في الغد طلعت جريدة “الاتحاد الاشتراكي” مكللة بالسواد، ومن ضمن مقالاتها، مقال احتل الأسفل، يحمل توقيع أحمد المديني وكان العنوان: “وصية العربي الأخير”. (!).
***
كانت صدمة كيرة.
طالب محمد عابد الجابري تشكيل لجنة تقصي الحقيقة في موت باهي، وتشكلت بالفعل لجنة ثلاثية من أعضاء المكتب السياسي الدكاترة محمد الحبابي وعبد الواحد الراضي وفتح الله ولعلو، استمعت اللجنة إلى عدد كبير من العاملين في الجريدة، ونشأ خلاف بين أعضاء اللجنة، فكتب الحبابي تقريره، وكتب الراضي وولعلو تقريرهما، وتم إخفاء التقريرين معا بدل نشرهما لمعرفة الحقيقة.
سأحصل على نسخة من التقريرين، عن طريق عضو المكتب السياسي المرحوم المناضل والشاعر محمد الحبيب الفرقاني، وكانت تربطني به صلة إنسانية طيبة ووطيدة، كان التقرير الأول بخط اليد للحبابي، والتقرير الثاني بخط يد فتح الله ولعلو.
بعد اطلاعي على ما جاء في التقريرين اكتشفت أن أحمد المديني زعم أن باهي “ترك له وصية”، وأنه كان معنا في الزيارة الأخيرة، لكن الجميع ذهب وبقي هو معه لوحدهما، وهذا ليس صحيحا على الإطلاق،
أما العطار بوغالب (سفير المغرب حاليا بكوبا) فقد صرح للجنة أن عبد الرحيم التوراني هدده بالقتل.
سيكتب حسن العلوي مقالا طويلا في أسبوعية “المنتدى”، رد فيه على ادعاءات المديني، وكان بعنوان: “أحمد المديني.. مكانك من فضلك” (!).
ثم سمعت أن اليوسفي والبصري يقولان أن باهي هو من بادر واختار المجيء من باريس للعمل في الجريدة، ولم يستدعه أحد.
في ذكراه الأربعين نشرت عددا خاصا من مجلة “السؤال – الملف” حول محمد الباهي. لم تقم جريدة الحزب تحت إدارة عبد الرحمان اليوسفي بالإشارة إليه، مثلما حدث مع العدد الخاص الذي أصدرته بمناسبة الذكرى الثلاثين لاختطاف المهدي بنبركة، بل إن الجريدة رفضت إعلانا مؤدى عنه على صفحات “الاتحاد الاشتراكي”، هو نفس الإعلان الذي نشر ثلاث مرات على صفحات جريدة “أنوال” لما كان يديرها المرحوم المناضل حسين كوار، ولما كلمت كوار عن استعدادي لأداء حق الإعلان نهرني، وقال لي:
– هل تهزأ مني؟ كيف نأخذ مقابلا عن نشرصورة الشهيد المهدي بنبركة؟!
كاتبت مدير “الاتحاد الاشتراكي” وتركت له رسالة بمنزله في بوركون، وأعدت الاتصال به في صباح اليوم الموالي هاتفيا، أسأله عن سبب امتناع الجريدة عن نشر خبر عن العدد الخاص بالمهدي بنبركة، رد علي السي عبد الرحمان أن لا جواب لديه، ثم حول الحديث إلى موضوع آخر، بلهجته الخليط بالعامية المغربية والمشرقية، ففهمت ما لم أفهمه من قبل.
علما أن عبد الرحمان اليوسفي ساعدني في إنجاز عدد المهدي بنبركة، حين كنت أتردد عليه في بيته، وبفضله جاءتني وثيقة مهمة عن المهدي صادرة في مصر الستينيات، وهو من سلمني صورة المهدي بنبركة التي كانت غلافا للعدد، بل انه ألح علي نشر شهادته أمام محاكمة قتلة بنبركة، ولم يقم بذلك على صفحات “الاتحاد الاشتراكي” التي يديرها.
كما أن اليوسفي هو من مول العدد الخاص الذي أصدرته عن الفقيه البصري عند عودته في 160 صفحة، (عشرة مليون سنتيم، 20 ألف نسخة)، وهو من اقترح علي وألح لأنجز عددا خاصا بالمقاومة تزامنا مع نصف قرن على أحداث وادزم واسكيكدة، والتي نظم اليوسفي بمناسبتها مهرجانا كبيرا في المدينة الفوسفاطية خريبكة. وكان أول ظهور للفقيه في لقاء عام يحضره بعد عودته. وكان من بين الضيوف أحمد سعيد المذيع المصري الأشهر رئيس إذاعة “صوت العرب” في عهد جمال عبد الناصر.
***
كان اليوسفي سعيدا بالعمل الذي قمنا به في مهاجمة اليازغي وأزلامه على صفحات “المنتدى” التي كان يديرها الأخ أحمد الصبار.
وكان عبد الواحد الراضي من مدمني قراءة “زحفطونيات” قدور القندوسي، المكتوبة بالعامية. أما الفقيه محمد البصري فكان يسألني عن العدد الجديد من “المنتدى” كل يوم، ناسيا أنها أسبوعية.
***
إن التشريح السياسي يؤكد أن الصحافي محمد باهي ذهب ضحية قتل، وأداة الجريمة كانت أكثر من خنجر ورصاصة، بعضها جاءته في الصدر من الأعداء المندسين في الطابور، وبعضها من الخلف في الظهر، من الإخوة الرفاق.. أو كانت “نيرانا رفاقية” على وزن التعبير الأمريكي.
هو غدر لا يطاق.
لا تستغرب يا صاحب.. فنحن في زمن القتلة!