بونيت ينشر محضر مناقشة مع أحد فضلاء العدليين..بخصوص الانتباه لتفاصيل مضمون علاقة المغرب بالكيان الصهيوني
في منشوري الأخير بعنوان: “توضيحات لا بد منها”، الذي كتبته من أجل تبديد كل غموض بخصوص الأسس والمبادئ التي نعتبر في الصف الديمقراطي التقدمي أنها هي ما يشكل جوهر عدالة قضية الشعب الفلسطيني، ولا نقبل بصددها أي خلط أو تدليس ينتهي إلى التطبيع الفعلي الأكثر خطورة ، والذي يقلب الحقائق في وعي الناس ويؤدي إلى وعي زائف يصب في مصلحة الخطاب الصهيوني الاستعماري؛ ورد ضمن سياق توضيحاتي تلك ما يلي: “علينا أن نصر بإلحاح على مناقشة كل تفاصيل مضمون العلاقة التي ينبغي أن تربط بين الدولة المغربية والكيان الصهيوني، باعتبارها علاقة ندية، دقيقة، وواضحة في حدودها وفي مخرجاتها. وألا نعتبرها علاقة غايتها الوحيدة هي رهن الموقف المغربي من عدالة القضية الفلسطينية وتكبيله.”
وممن علقوا على هذه الفكرة أحد الفضلاء من جماعة العدل والإحسان (لا أريد أن أذكر اسمه لأنني لم أستشره في ذلك)، أتوقف عند تدخلاته لأنها بدت لي مفيدة في إعطاء صورة عن الإمكانات الكامنة في كل نقاش جاد بين ضفتين من الأفكار والتصورات.
قبل عرض ما ورد النقاش الذي دار بيننا، تعميما للفائدة وانسجاما مع ما دعوت إليه في منشوري الأول في الموضوع، أريد أن أوضح جزئية أراها ذات أهمية لما ستحدده من حجم لما أكتبه. لست فاعلا سياسيا مطالَبا بالتعبير عن مواقف سياسية والإدلاء بتصريحات حول ما فعله أو ما ينوي فعله، أو إطلاق دعوة إلى السير في اتجاه ما. في هذا الباب، أعرف حدودي. وفيما لو كنت مشاركا في فعل سياسي ما، فسأعبر عن موقفي بشكل مؤسسي. أنا هنا مجرد مشارك في النقاش العمومي بأفكاري التي أعتقد أن من المفيد اقتسامها مع الآخرين، إسهاما في التفكير المشترك، وسعيا إلى إطلاق ديناميات جديدة لهذا التفكير، قد تساعد في خضم النقاش، كل ذي قرار أو فعل سياسي، من أي مستوى أو اتجاه كان، في تفكيره وتحليله، بالتأييد أو الاعتراض.
يحدث أن ينسى كثيرون، في مثل وضعي، أنهم ليسوا فاعلين سياسيين إلا على نحو رمزي، خاصة إذا سبق وكانوا من ضمن الفاعلين السياسيين المباشرين. فنرى منهم من يتردد في التفكير خارج إرثه السياسي، أو في التعبير عما يفكر فيه، لأنه صاحب موقف مشهود سابق. من جهتي، أعتبر أن من مهامي المؤكدة أن أفكر وأحلل وأتقاسم أفكاري بحثا عن تصحيحها ومناقشتها، معتبرا أن ذلك يسهم في تحريك الفكر المشترك وإعادة رسم معالم المخيلة السياسية التي تحتاج دوما إلى البحث عن الاحتمالات القصوى، لا سيما في مناخنا السياسي المتكلس فكريا. لهذا لا أعبر – في ما أكتب – عن مواقف بالمعنى السياسي للكلمة، لأن الاكتفاء بتسجيل المواقف، في وضعي، لا يفيد شيئا سوى التنفيس عن الكُرَب التي تجتاحنا، ونحن نحس أن قصور الطمأنينة التي شيدناها لأنفسنا انهارت علينا؛ حتى إننا لَنبدو سذجا لم يسبق لنا أن خبرنا حقل السياسة وتقلبات رماله.
بعد هذا التوضيح، أعود إلى وقائع النقاش مع الأخ الفاضل من جماعة العدل والإحسان. كتب أخونا معلقا على الفكرة التي أوردتها في بداية هذا المنشور، ما يلي: “يعني لا مشكلة في اقامة علاقة مع العدو الصهيوني انما ينبغي مناقشة تفاصيل هذه العلاقة. تحول مهم هذا، يبدو انه لا حدود لتنازلاتكم.” هذا ما فهمه الأخ الفاضل. وفي تقديري أن هذا الفهم تسنى له لأنه ربما وجده متنافرا مع التوضيحات التي سبقته وكانت على ما أظن، لا غبار عليها، ولا تثير عنده أي اعتراض.
عقبت، من جهتي، على تعليق الأخ الفاضل بالقول:
“هذا اختزال وتشويه غير بناء لرأيي هذا ولموقفي العام. ومثل هذه الطريقة في النقاش ستقتل أفكارك وأفكاري معا، وتجعل حوارنا عقيما وتجهضه. “علاقة الدولة المغربية بالكيان الصهيوني موجودة منذ زمان، هل كنت حقا تجهل ذلك؟ وهل حقا تتخيل أنهم كانوا ينتظرون موافقتك؟ العلاقة كانت قائمة رسميا منذ 1994 في مستوى مكاتب الاتصال، وتوقفت سنة 2000، احتجاجا من المغرب على العدوان الاسرائيلي على اطفال انتفاضة الاقصى الثانية. ورفض المغرب لمدة عشرين سنة اعادة هذه العلاقات الى شكلها المؤسسي السابق. اليوم تعاد من جديد، وهي إعادة مقرونة بمقابل سياسي حاسم وهام، لا يحق لك ان تتجاهله، هو انهاء الابتزاز الامريكي للمغرب بخصوص صحرائه. المغرب يعود الى وضع سنة 2000 ولكن بمكسب دبلوماسي كبير لا يقدر بثمن. الفلسطينيون المنصفون أنفسهم يقدرون ذلك ويتفهمونه، لأن مغربا موحدا قويا أفضل لهم وأقدر على دعمهم، من مغرب ينهكه الابتزاز، ويواجه قلاقل تخص وحدته الترابية.
ما نطرحه هو جعل مضمون العلاقة القائمة فعلا مع الكيان الصهيوني تحت مراقبة الشعب وضمن مجال الفعل السياسي. لا شيء يمنعنا من النضال المستمر، في إطار هذه المراقبة لكبح اي انزلاق او تفريط في ثوابتنا إزاء القضية الفلسطينية. اما الهروب بعيدا كلما طرح الموضوع، والتلفع بالشعارات بدعوى الصمود، دون ان يكون لذلك اي أثر ملموس في الواقع، فهذا هو النهج الذي ادعو إلى تغييره، بعد ان جربناه طويلا، دون ان نلمس جدواه. لا علاقة للموضوع باي تنازل، لأنني لست صاحب قرار رسمي ولا املك ما أتنازل عنه. كل ما لدي هو رأيي وموقفي الفكري، وهما غير مرهونين باي اعتبار ايديولوجي خارج ما أنا مقتنع به وغير قابلين للمساومة او الابتزاز بالتنابزات اللفظية الجاهزة..”
رد الأخ الفاضل على تدخلي هذا بقوله:
“قلتَ إن «ما نطرحه هو جعل مضمون العلاقة القائمة فعلا مع الكيان الصهيوني تحت مراقبة الشعب وضمن مجال الفعل السياسي”، بمعنى القبول مبدئيا بهذه العلاقة ومن تم مراقبتها، اذن تعقيبي لم يكن فيه لا اختزال ولا تشويه لكلامك.
هذا من جهة، من جهة ثانية، علاقة النظام المخزني مع الكيان الصهيوني معروفة منذ زمن الحسن الثاني في المجال السياسي و العسكري و الاستخباراتي، شأنها شأن باقي الأنظمة الاستبدادية التي تحاول ضمان بقائها في السلطة، هكذا يعتقدون، و لو بالتحالف مع الشيطان، لكن رغم ذلك لم يجرؤ المخزن على طرح الموضوع علانية عبر ابرام علاقة شاملة و كاملة و سريعة كما صرح بذلك امس وزير الخارجية بوريطة لإحدى قنوات الكيان الصهيوني، لأنه يدرك تماما ان هناك رفضا شعبيا واسعا مؤطرا من طرف قوى حقيقية فاعلة في الميدان ( قبل أن يتم احتواء جزء من هذه القوى للأسف) وهذا هو الأثر الملموس الذي تنكره وتنفيه، وليس شعارات بل حقيقة، فواجب القوى الحية ببلدنا و النخب المثقفة الملتزمة بقضايا أمتها
تأطير الشعب و تعزيز صموده و توعيته بما يحاك ضده، لا تبرير مخططات الذل و الهزيمة ،حتى لا نورث لأبنائنا و الأجيال المقبلة ذلا وعلاقة مسمومة لها تداعياتها الخطيرة، فالقضية الفلسطينية قضية أجيال ، ويبعث الله من هو أهل لتحريرها، لكن مسؤوليتنا ان نكون خير سلف لخير خلف. ثم هل من لم يجرؤ على معارضة قرار تاريخي خطير كهذا وتسجيل موقف تاريخي (فمعذرة الى ربكم)، سيعول عليه لكبح اي انزلاقات عن الثوابت الفلسطينية، انها تبريرات واهية تساهم في اضعاف صمود الشعب المغربي بدل تقويته.
أخيرا فالحديث عن مقايضة القضية الفلسطينية بالسيادة على اراضينا عيب وعار سيسجلها التاريخ عن هذا النظام فلا أقل من الصمت حتى لا تسجل عليك وتبوء بإثمها أمام الله عز وجل وهو تعلق بخيوط عنكبوت ما يلبث ان يزول والمقام لا يتسع للتفصيل في ذلك.”
انتهى نص كلام الأخ الفاضل. وقد تدخلت فيه فقط لتصحيح بعض أغلاط اللغة وأخطاء الرقن التي تسربت إليه. وقد عقبت عليه مرة أخرى. والحق أنني كتبت العقيب السابق والتعقيب الذي سيلي، قبل أن أتبين أن الأخ الفاضل عضو في الجماعة التي أحترمها وأحترم مؤسسها، وكانت لي مع عدد من أعضائها نقاشات ومشاركات بناءة وغنية، قبل الربيع المغربي وأثناءه. وقد أضْفَت هذه المعلومة سياقا أكثر وضوحا على ما ورد في مناقشة هذا الأخ الذي كان يتصدى لما قلته من باب انتمائه السياسي، وليس فقط من باب النقاش الفكري بين شخصين، يعتقد أحدهما ان الآخر مثله يصدر عن موقف تيار أو رهط ينبغي التصدي لتسفيهه..
كتبت إذن، في ضوء عدم علمي بانتماء الرجل السياسي والإيديولوجي، معقبا بما يلي:
” مشكلتك أنك تعتقد أنك وحدك تملك شجاعة الانتقاد، وتفترض أن المظهر الوحيد للشجاعة هو انتقاد كل خطوة يقوم بها رئيس الدولة. حين يكون هناك ما أعارضه في كلام او فعل الملك والمؤسسة الملكية اتوجه اليه مباشرة وانتقده وأقول رأيي بكل وضوح، ولا أحتاج أن اتقوى بأي حشد؛ ويمكنك العودة الى ما نشرته في محطات عديدة بهذا الخصوص. فلا مجال للمزايدة علي بهذه الاعتبارات الهشة.
موقفي الدائم، بالأمس وغدا، واضح، ورأيي اليوم واضح أيضا، ولا ينتظر مباركة منك ولا من الملك ولا من اي قوة حية او ميتة.
مشكلة هذا النوع من السجال هي ارتهانه الى قوالب متكلسة من أدوات التفكير ولا يجرؤ على مناقشة جدواها او مساءلتها، ويجد راحته في مهاجمة كل أفق جديد للتفكير.
ربما لن تصدق إذا قلت لك انني أصر على وجود حركة قوية رافضة للتطبيع في الشارع، ولكنني أصر أكثر على وجود نقاش حقيقي قوي ومسؤول حول الموضوع ايضا. أرفض مصادرة التفكير، كما أرفض قمع اي احتجاج او تعبير عن رفض المعانقة الكاملة للكيان الصهيوني العنصري، بلا حدود ولا شروط. اعتبر المعارضة الشعبية المؤطرة نقطة قوة في غاية الأهمية لموقفنا الدولي، على أن تكون ذات افق سياسي لا يسجن نفسه في القطعيات العاطفية والمبدئيات التي نعرف جميعا محدوديتها. المبادئ حاسمة في تحديد الاختيارات والسقوف والأولويات، لكنها لن تكون وحدها هي السقف. ما عدا ذلك، اعتبره تكرارا لعدم الجدوى الذي ندور فيه منذ سبعة عقود.”
إلى هذا الحد انتهى النقاش بيني وبين الأخ الفاضل. وقد نشرت محضره هنا تعميما للاطلاع وتطلعا إلى مزيد من النقاش.