رفض الذكورية في نضالات الحركة النسائية لا علاقة لها بكراهية الرجل
في حمأة النقاش حول إصلاح مدونة الأسرة، وعدا المواقف الرسمية للهيئات والمنظمات السياسية والمدنية التي يتم نشرها، يلاحظ أن الكل والجميع يدلي بدلوه، تدوينا أو تعليقا على تدوينات في شبكات التواصل الاجتماعي (الفايسبوك على سبيل المثال).
قرأت الكثير من التعليقات وصادفتني العديد من “الملاحظات” و”الآراء” التي، حتى في تناقضها مع بعضها البعض، هي في النهاية دليل على التنوع والتعدد واختلاف في المرجعيات والمنطلقات التي لا يمكن إلا تقديرها حق قدرها واعتبارها عنصر حيوية وابتعاد عن أي كسل وتكلس وفتح إمكانات النقاش الغني والمفيد للجميع.
لكن في خضم التعليقات العديدة، أثارني البعض منها، لا بسبب الرأي المتضمن فيها بل لأنها تُروج، عن قصد أو عن غير قصد، لمغالطات تتطلب بعضا التوضيح.
من بين هذه المغالطات القول بأن مشروع الحركة النسائية المغربية هو “الدعوة للصراع مع الرجل وكراهيته”.
في هذا الإطار، أود التنبيه بداية إلى أنه من البديهيات وعادي جدا أن يتم توجيه النقد للحركة النسائية، فهي مثلها مثل أي تجمع بشري تحبل بالكثير من الأوجه التي يمكن بل وينبغي انتقادها. كما أنها وكأي تنظيم جماعي، حزبي أو نقابي أو جمعوي، لابد وأن تأتي في لحظة من لحظات تعبيرها تصرفا أو سلوكا (جماعيا) يمكن نقده من هذه الجهة أو تلك.
لكن تنبغي الإشارة فقط أن من ينوي ويستعد لتوجيه النقد، وكي يستقيم هذا الأخير على أسس متينة، عليه أن يتوفر على المعطيات والمعلومات حول الجانب الذي ينوي نقده. فلا صدقية ولا مصداقية للنقد إلا إذا قام بعرض المعطيات كما هي، حتى يتبين القارئ أو المتتبع حقيقة / واقع الأمور، ثم فيما بعد طبيعة النقد وأساسه ومرجعيته والهدف منه.
إذ هناك فرق كبير بين من يسعى لتوجيه النقد الذي يتوخى البناء، وبين من يكمن هدفه في الهدم…هناك فرق بين من يسعى لتعميق الفكرة وبين من يهمه تعميق هوة الجهل والتجهيل، فرق بين من يستند على حجج عقلانية وبين من يسند نقده على أهواء عاطفية، فرق بين من يهمه الذب عن الفكرة ببراهين عقلانية وبين من يستغل كل الفرص لنفث ضغائنه وأحقاده. شتان بين هذا وذاك، شتان بين النقد وتصفية الحسابات.
نعود الآن إلى الفكرة التي تعنينا هنا، أي انتقاد مشروع الحركة النسائية بناء على كونها تنشر “الحقد والكراهية والصراع مع الرجل”، أود التذكير بما يلي:
دون أدنى تردد وبدون أي شك، أقول انطلاقا من معرفتي القريبة جدا من هذه الحركة ومن منشوراتها، بل أقول بوضوح إنني أعتبر نفسي جزءا لا يتجزأ منها، أفتخر بما حققته، وأتحمل المسؤولية في بعض من كبواتها ونكساتها وأخطاءها وحتى خطاياها، أقول بوضوح لا توجد ولو جملة واحدة في كل منشورات الحركة النسائية، منذ أن رأت النور في بداية الثمانينات وإلى يوم الناس هذا، ما يفيد أنها تروج لكُره الرجل، هكذا في المُطلق.
ما تكتبه الحركة النسائية وما تنشره وما ترفضه وما تدافع عنه بعيد كل البعد عن هذا. فالحركة النسائية، تنظيمات وجمعيات وفعاليات وكاتبات وباحثات وصحفيات وفنانات، لا كراهية لهن للرجال…وكيف لهن ذلك، وهن بنات وأمهات وجدات وزوجات وأخوات وحبيبات ورفيقات وزميلات للرجال، وهذا لعمري من البديهيات التي من المفروض أننا نعرفها ونعيها ونفهم عمق تفاصيلها…ومعها لا يستقيم هذا الشعور ولا هاته المشاعر التي تبقى في حكم نفسيات الأفراد ولا علاقة لها بعمل/نضال جماعي.
ما تُعبر عنه الحركة النسائية وما تقوم بها وما يشكل عناصر مشروعها، هو تفكيك البنية الذكورية والسعي على المدى البعيد لتعويضها ببنية إنسانية/إنسية. ومن هنا يكتسب نضالها شرعيته ومشروعيته.
ما تقوم به الحركة النسائية، هو العمل على تفتيت وشلّ منظومة تتأسس على مظالم لم يعد ممكنا تحملها.
لا تُكن الحركة النسائية أية ضغينة للرجل/للرجال، بل هي بالأحرى تنتفض ضد منظومة تُطلق عليها تسميات متعددة، من قبيل النظام الأبوي، النظام الذكوري، الباترياركا، الهيمنة الذكورية، نظام التراتبية…الخ
يتعلق الأمر بنسق، بمنظومة، بنظام متكامل ينطلق من الاعتقاد في فكرة قائمة على التفوق الذكوري، واعتبار الرجل متفوقا على المرأة. إنها منظومة قديمة وضاربة بجذورها عميقا في تاريخ البشرية، أسست فكرتها المركزية على أن الذكر يمتلك قدرات ومؤهلات، يمتلك عقلا ونباهة ويمتلك قوة تفوق وتتفوق على ما تمتلكه الأنثى. كان هذا هو المنطلق الذي تُقدم حوله العالمة الأنثربولوجية “فرانسواز ايريتيي” (Françoise Héritier)إفادات وتفسيرا و”تأويلات” غاية في الأهمية، سمحت لها بها أبحاثها الميدانية التي ضمنتها في كتابها :
Masculin Féminin une pensée de la différenceMasculin Féminin Dissoudre la hiérarchie
ترتبت عن هذه الفكرة منظومة عرفت تطورا مهولا زاد من ترسيخها، وطورت فيما بعد آليات كثيرة ومعقدة، من بين أهمها الصور النمطية التي تمرر يوميا للتأكيد على فكرة التفوق الذكوري وعلى أن المرأة كائن ضعيف، كائن ناقص عقلا ودين (وبالدارجة المغربية، المرا ولية). تلعب مؤسسات التنشئة الاجتماعية دورا محوريا في تمرير وإعادة إنتاج هذه الصور النمطية والتمثلات لاستنباتها في الناشئة، ذكورا وإناثا.
فهذه التنشئة الاجتماعية لا تميز بين الذكر والأنثى، ما يهمها هو غرس مضمون التفوق ليُصبح اعتقادا راسخا فيما بعد. ضمن آليات التنشئة الاجتماعية، تحظى التربية داخل الأسرة بأهمية كبيرة وتلعب دورا كبيرا وتقوم الأم بمهمة مركزية في ذلك. تكون النتيجة في النهاية هي “فبركة” نساء ورجال بنفس التفكير ونفس التمثلات، حتى وإن كانت إيجابية بالنسبة لطرف وسلبية للطرف الآخر. ولعل هذا من بين ما يفسر اعتلاء بعض النساء كرسي الدفاع عن هذه المنظومة.
طبعا وطبعا، حينما تشعر بعض النساء، لسبب من الأسباب وبحكم بعض الظروف والشروط أن في ذلك “تحقيرا” منهن واستصغارا من كرامتهن وامتهانا لهن، ينتفضن ويرفضن وتنطلق سيرورة اكتساب الوعي الذي يجعلهن يطورن أشكالا للاحتجاج والتخلص من هذه المنظومة. أشكالا جماعية لا فقط فردية.
هو نفس الأمر الذي يحدث لبعض الرجال الذين، وبحكم نوع من الأخلاقيات والحساسية الخاصة، ينتبهون أن ما يتم الترويج له من صور نمطية حاطّة بكرامة النساء لا يليق بإنسان يحترم نفسه، ويرفض الحط من الكرامة أيا كان المستهدف منها.
من البديهي أن هذه المنظومة لا تقوم فقط على الترويج للصور النمطية، بل ما يديمها ويمد في عمرها هو أنها قامت على التسليم بعدد من “الامتيازات” المادي منها واللا مادي المخصص للرجال…بل الأدهى من ذلك، هو أنها طوّرت عددا من الحجج للدفاع عن نفسها ولضمان استمرارها وديمومتها، من قبيل التجاءها إلى إضفاء الطابع القدسي والديني على نفسها.
ويمكن المجازفة بالقول إن هذه كانت من أخطر وأشرس الوسائل التي استعملتها هذه المنظومة. وتكمن خطورة هذه الوسيلة في كونها تجعل من الذكورية أمرا مقدسا نازلا من السماء ولا يمكن مناقشته بشكل عقلاني ولا إمكانية لأنسنته بالشكل الذي يحتمل النقد والتفكيك والتشكيك، وبالتالي المحو والزوال.
تجدر الإشارة إلى أن هذه المنظومة تُمرر كذلك، وتُستنبت في مختلف المجالات التي يتم عبرها شرعنة مضمونها، على سبيل المثال، تعتمد هذه المنظومة على القوانين التي يتم إقرارها، وذلك بعد أن سبقتها الأعراف والتقاليد. كما تعتمد على السياسات العمومية في مختلف المجالات، وفي القلب منها مجال التربية والتعليم والمناهج الدراسية.
من نافلة القول، إن أسس هذه المنظومة تزعزعت واختل توازنها بشكل فارق منذ ولجت النساء مجال التربية والتعليم الذي تمت “دمقرطته” وانتشر بشكل غير مسبوق منذ منتصف القرن 19م، وسمح ببروز كفاءات نسائية بل نوابغ في مختلف المجالات. نخص بالذكر منهن على سبيل المثال لا الحصر، العالمة الفيزيائية ماري كوري (Marie Curie) الحاصلة على جائزتي نوبل (في الفيزياء والكيمياء). منذ ذلك التاريخ، ظهر بجلاء أن النساء لا ينقصهن لا عقل ولا ذكاء، وأنهن مثل الرجال، حينما تتاج لهن نفس الفرص قد يحققن المعجزات، كما يمكن أن تبرز حدود ذكاءهن، بالضبط كما هو الشأن بالنسبة للرجال.
سمح كل هذا بالانتقال من فكرة التفوق الطبيعي إلى التنسيب الاجتماعي والثقافي، مع ما ينطوي عليه من آفاق واعدة بتغيير البنية الذكورية في أفق القضاء النهائي عليها.
من هذا المنطق، يتضح أن الحركة النسائية انتفضت وتنتفض ضد هذه المنظومة التي تقوم على فكرة “جوهرانية” لا علاقة لها بالواقع، أكثر من كونها تمتح من تمثُل بعيد جدا عن الواقع. هذه هي المنظومة التي تستهدفها الحركة النسائية، فهي لا تستهدف الأشخاص، ولا تتوجه للبشر في حميميتهم، ولا تبتغي النيل من الرجال. فالرجال بشر بالضبط كما النساء، لا يحملون جينات الشر ولا جينات التسلط والهيمنة.
بالمقابل، فالنساء لا يحتكرن الخير كل الخير، ولا تختلط دماؤهن بوهم الفضيلة، كل الفضيلة. هم وهن، نتاج تنشئتهن وتربيتهن والقيم التي تلقوها وطبيعة الحياة التي عشناها ونوعية الناس الذين احتككن بهم. لكن، تبقى مختلف المؤسسات ومضمون ما تقوم عليه هي المستهدفة من نضالات الحركة النسائية التي تتوخى وتهدف إلى تغييره بالشكل الذي يسمح بقيام مجتمع مرفوع ومسنود بقيم تُصالح الإنسان مع أجمل ما يمكن أن يتطلع إليه من نبل وأخلاق رفيعة، ومن بينها اعتبار البشر، كل البشر، نساء ورجالا سواسية لا فرق بينهم، إلا بما نجحوا فيه فرديا من سلوك يعلي من قيمة الإنسان بغض النظر عن جنسه.
فليس الرجال هم المستهدفون من نضالات الحركة النسائية المغربية، بل المستهدف هي منظومة ثقافية اجتماعية، توجد في القوانين والمؤسسات والبرامج والمناهج التربوية ومضامين المنتوج الإعلامي، ولا علاقة لها لا بالأشخاص ولا بالشخصنة.
فكفوا استهدافكم/ن للحركة النسائية على أساس مغالطات وانتقدوها في سلوكها السياسي بناء على معطيات ذات مصداقية.