جليل طليمات يكتب: هكذا تحدث الزعيم الراحل عبد الرحيم بوعبيد عن عريضة المطالبة بالاستقلال
يتوقف الزعيم الراحل عبد الرحيم بوعبيد في الجزء الأول من مذكراته الموسومة ب ” شهادات وتأملات” عند الشروط التي جرى فيها التحضير لعريضة المطالبة بالاستقلال حيث يستحضر وقائع وتفاصيل هذه اللحظة الانعطافية في النضال الوطني ضد المستعمر, ملقيا أضواء كاشفة على مختلف ما أحاط بهذه اللحظة من ملابسات واختلافات في التقدير والتحليل لطبيعة الظرفية التي تم الإقدام فيها على المطالبة بإنهاء العمل باتفاقية الحماية . وفي هذا السياق يعرض بوعبيد موقفين داخل الصف الوطني :
_ موقف يعتبر” أن المناخ الوطني والدولي لم يكن مناسبا بما فيه الكفاية للإقدام على مثل هذا العمل ” (ص 19) ,وهو الموقف الذي دافع عنه ممثلو الحركة القومية للسيد محمد بلحسن الوزاني الذي كان آنذاك رهن الإقامة الإجبارية .
_ وموقف يؤكد على أن أي تأجيل لمطلب الاستقلال في تلك الظرفية سيؤدي إلى خطر الوقوع في تقديرات خاطئة تكرس الحماية وتعمق وتعزز الوجود الاستعماري في مجموع منطقة شمال إفريقيا. وبكثير من الواقعية في التحليل للظرفية يعتبر بوعبيد ” أن الاقتصار على إعادة طرح مطالب برنامج الإصلاحات لسنوات 1934_ 1936, وإعادة طرح مطلب الاحترام الدقيق لبنود معاهدة 1912, والتخلي عن نظام الإدارة المباشرة … كلها تقديرات ومواقف خاطئة .. وتصور لاواقعي من كل الجوانب”,قد تشكل ” تهديدا خطيرا للسيادة المغربية من خلال تطبيق سياسة الهجرة والاستيطان في المغرب لسكان فرنسيين وعناصر أجنبية أخرى ” (ص 20) . وبناء على هذا التقدير الواقعي يجزم بوعبيد ” بأن الرغبة في “إصلاح الحماية” في الإطار القانوني لنفس الحماية يشكل وهما خطيرا وموقفا لا واقعيا ” ( ص22) .
و في نفس المنحى التحليلي للواقع العيني توقع بوعبيد آنذاك ما سيكون عليه رد فعل المستعمر الفرنسي على مطلب الاستقلال, يقول :” سيعترض الفرنسيون بأننا لا نتوفر على الأطر وعلى التقنيين , وعلى الوسائل المالية لتطوير الاقتصاد , ومحاربة الأمية , أي سيستعملون مظاهر عجز الحماية نفسها كمبررات للإبقاء على هذا النظام العاجز” ( ص 23) .
وعليه ,أكد بوعبيد آنذاك على أنه لابد يل عن موقف المطالبة بالاستقلال في هذه الظرفية بالذات ,إنه كما كتب, “الطريق الأكثر واقعية “, ففي إطار دولة الاستقلال سيحقق المغرب ما لم تحققه الحماية, حيث “سنتمكن من تكوين الأطر واسترجاع الوسائل المادية التي اغتصبت منا “(ص 29) .
ويخلص بوعبيد إلى أن اختيار ظرفية تقديم عريضة المطالبة بالاستقلال هو اختيار واقعي لاعاطفي ,وموقف واعي لا رد فعل اندفاعي, يقول:”.. بعد تفكير علمي, كان علينا أن نكون واقعيين, وأن نحدد كهدف ما كان آخرون يعتبرونه مستحيلا “. ومن هذا المنظور الواقعي والعقلاني يسهب بوعبيد في عرض وتحليل الشروط الموضوعية المحيطة بقرار المطالبة بالاستقلال سواء على صعيد منطقة شمال إفريقيا أو في بلد المستعمر وعلى المستوى الدولي , متوقفا بالتحليل عند هذه المعطيات والأحداث التالية :
_ نزول القوات الأمريكية بالمغرب في 8 نونبر1942 “وكأنهم نزلوا في أرض فرنسية” ! أي بتجاهل مطلق لعاهل البلاد كرمز للسيادة, ما خلف ” لدى مجموع مناضلي وأطر الحزب الوطني إحساسا كبيرا بالمرارة ” وحفز بالتالي قيادة الحزب على التسريع بوتيرة التحضير للإعلان عن المطالبة بالاستقلال ” .
_ محادثات العاهل المغربي محمد الخامس مع الرئيس روزفلت في مؤتمر آنفا بالدار البيضاء في يناير 1943, كمعطى نوعي في ترجيح اختيار المطالبة بالاستقلال دون تردد ولا تأجيل, خاصة أن العاهل المغربي ” أخبر حلفاء فرنسا الحرة بتصميم الشعب المغربي على وضع حد لروابط التبعية التي فرضتها معاهد فاس..” (ص26) .
_ إصرار السلطات الفرنسية الاستعمارية على مشروعها الاستيطاني في الجزائر بتقديم وعود ” بإصلاحات جزئية” مقابل الإبقاء عليها كجزء من ” الإمبراطورية الفرنسية” , إضافة إلى دخول قوات الحلفاء لتونس وعزل الباي محمد منصف في مايو 1943 ( ص 35)
_ لقاء العاهل المغربي بالجنرال الفرنسي شارل ديغول ,حيث وعد الجنرال ” بفتح مفاوضات بين البلدين بمجرد ما يتم تحرير فرنسا وترابها الوطني من الاحتلال الألماني “, وعلى الرغم من “التفاؤل المبالغ فيه “الذي تركه هذا الوعد لدى العاهل المغربي وقادة الحزب الوطني , فإن بوعبيد , بواقعيته التحليلية دعا إلى التزام الحذر, فاستحضار ماكان يجري في تونس والجزائر ” يدفع بالأحرى إلى التزام جانب الحيطة والحذر ” ( ص 40)
انطلاقا من هذه الرؤية والتقديرات السياسية للسياق الموضوعي الذي أطر فكرة وعملية التحضير لعريضة مطلب الاستقلال,تم اتخاذ الإجراءات التنظيمية لضبط صياغة العريضة , وتحديد الموقعين عليها , والقيام بتعبئة شعبية حولها.
ويعرض بوعبيد هنا تفاصيل التشاور الجماعي بين مختلف المكونات الوطنية ( قيادة الحزب الوطني _ حزب بلحسن ألوزاني _ الشخصيات المستقلة ..) وأدوار رفاقه الوطنيين في التعبئة الشعبية , حيث يذكر مثلا دينامية المهدي بن بركة واصفا إياه ب “المناضل المدهش” وذلك لفعاليته في التنظيم وعقد الاتصالات و إلقاء المحاضرات ” وتشكيل الخلايا” في عامي 1940 و 1941 , إضافة إلى تنويهه بقيمة مشاركة عبد الحميد الزموري والسي عامر أوناصر باسم كل الشباب البربري, إذ شكلت هذه المشاركة تسفيها للسياسة البربرية الفرنسية ’ وكذلك الشأن بالنسبة لدور العلماء كالشيخ محمد بن لعربي العلوي الذي يعتبره بوعبيد ” أحد مؤسسي الوطنية المغربية ,وربما أستاذ هذه الحركة” .
ولأن المجال لا يتسع لبسط مختلف تفاصيل التحضير لعريضة المطالبة بالاستقلال , سأكتفي هنا بتحديد أهم خلاصات بوعبيد التقييمية لها,وملاحظاته النقدية حول نص وثيقة المطالبة بالاستقلال باعتباره تسوية Compromis نتجت عن المفاوضات بين قيادة الحزب الوطني والشخصيات المستقلة , أي أن نص الوثيقة هو صياغة تركيبية لأكثر من مشروع ما جعل منه نصا مكثفا ومختصرا, ” ويغلب عليه الطابع القانوني “, ويعترف بوعبيد بكل شفافية أن صيغة العريضة لم تكن بالنسبة لكثير من المناضلين ” تحفة رائعة من الوضوح” ( ص43) .
وفي هذا السياق النقدي يبدي بوعبيد ما يلي من ملاحظات حولها, شكلا ومضامين :
أ : يلاحظ بوعبيد أن نص العريضة قد أشار في الحيثيات العشر التي دفعت إلى المطالبة بالاستقلال, إلى أربع منها فقط حول إخلال الحماية بمهمتها والتزاماتها, وبالتالي”تحولها إلى نظام للإدارة المباشرة ” بينما ركزت بقية الحيثيات على الدعم الحربي المغربي للحلفاء,والتزام الآخرين “بمنح الاستقلال لشعوب إسلامية ,منها ماهو دون شعبنا في ماضيه وحاضره “.
ويسجل بوعبيد بمرارة أنه تم الاحتفاظ بهذه الصيغة رغم الاعتراضات المقدمة حولها , فهذا المبرر الذي ساقته العريضة يقول بوعبيد ” لم يكن مناسبا ولا وثيق الصلة بالموضوع , لأنه كان يكرس نوعا من التصور الاستعماري الذي كان يؤكد بأن حق الشعوب في تقرير مصيرها مشروط بمستوى معين من النضج الثقافي والسياسي” (ص 43)
ب: وفي ملاحظة ذات أهمية سياسية وتاريخية حول تصور العريضة للسياسة العامة يسجل بوعبيد أن الموقعين يطالبون ” باستقلال المغرب ووحدة ترابه تحت ظل جلالة الملك .. ويلتمسون من العاهل المغربي السعي لدى الدول التي يهمها الأمر للاعتراف بهذا الاستقلال وضمانه” (ص 43 و44 ) ومعنى ذلك , يعلق بوعبيد هو ” أن الملك أصبح يتزعم الحركة الوطنية من أجل الاستقلال ” وبالتالي ” أصبح من حق العاهل أن يحدد المبادرات الواجب اتخاذها لدى الدول التي يهمها الأمر” بينما ما كان مطلوبا من العريضة هو التشديد على المطالبة بإلغاء معاهدة فاس الموقعة سنة 1912, باعتبار ذلك هو المدخل الطبيعي والشرط الأولي لأية مفوضات مع نظام الحماية , وهذا ما لم تكن تلك الصيغة , يضيف بوعبيد, واضحة وصريحة فيه ما أدى إلى سوء فهم وغموض والتباسات في تعاطي كثير من الملاحظين والمتابعين للمسألة المغربية .
ج : ومن بين هذه الالتباسات التي كان بالإمكان تجنبها حسب بوعبيد,حديث نص العريضة عن المفاوضات مع ” الدول التي يهمها الأمر”, ففي هذه الصيغة عدم تسمية فرنسا بشكل محدد وصريح ” كقوة حامية لا يمكن معاملتها على قدم المساواة مع ” بقية الدول التي يهمها الأمر”, وينتقد بوعبيد هنا أيضا إغفال نص العريضة للوضع الاستعماري في المناطق الخاضعة للسيطرة الإسبانية, وكأن الموقعين يعتبرون بأنه بإلغاء معاهدة 1912 ستلغى تلقائيا المعاهدة الفرعية الفرنسية الإسبانية !
د: وبنفس الواقعية في التحليل والتقدير السياسي الدقيق لتناقضات وإكراهات هذه اللحظة الانعطافية في النضال الوطني , يبين بوعبيد أن جوهر المعركة آنذاك هو تصفية الاستعمار, و لذلك, يسجل بإيجابية ملاحظة جوهرية تتمثل في تجنب نص العريضة المطالبة ” بإقامة نظام ديمقراطي للملكية الدستورية, يتضمن انتخاب مجلس وطني بالاقتراع العام, ومجالس محلية وجهوية منتخبة أيضا بالاقتراع العام المباشر ” حيث تم تعويض ذلك بصيغة أكثر عمومية تجنبا لردود أفعال الباشاوات والقواد الكبار وجزء من موظفي المخزن الكبار ” (ص 46) :
فصيغة “إحداث نظام سياسي شوري شبيه بنظام الحكم في البلاد العربية الإسلامية في الشرق” الواردة في الصيغة النهائية لنص العريضة, بدل صيغة ” إقامة نظام ديمقراطي للملكية الدستورية ” , هدفه ,إذن كما يفسر بوعبيد ذلك ,هو تجنب دفع الإدارة الاستعمارية إلى تأليب موظفي المخزن الكبار وكل من لهم ارتباطات مصالحية بالمستعمر ضد مطلب الاستقلال: فتلك الصيغة ” ستعني بالنسبة لهم تجريدهم من كل سلطة على مرؤوسيهم , وعلى ممتلكاتهم” ( ص 47) , وفي ذلك مخاطر على مسار الكفاح الوطني من أجل الاستقلال كمطلب مركزي آنذاك.
تلك أهم عناصر قراءة بوعبيد لنص عريضة المطالبة بالاستقلال كما تم تقديمها إلى العاهل المغربي من طرف وفد برئاسة أحمد بلافريج . ويعرض بوعبيد تفاصيل ذلك ” اليوم التاريخي” , يوم تسلم الملك محمد الخامس لعريضة الاستقلال, الذي قال عنه الملك بتأثر في كلمته أمام الوفد ” إن هذا اليوم سيبقى في تاريخ المغرب يوما مجيدا ” (ص 48) .
فعلا, هو يوم تاريخي, كان له ما بعده من تقوية لشوكة الكفاح الوطني من أجل الاستقلال, وإطلاق لدينامية جديدة في العمل الوطني,وتأسيس لوحدة متينة بين العرش والحركة الوطنية قادت إلى مفاوضات بين الحركة الوطنية والحكومة الفرنسية و سلطات الحماية خصص لها بوعبيد في ” شهاداته وتأملاته” حيزا هاما وغنيا بالمعطيات والتحليلات للوضع المعقد دوليا ومغاربيا ووطنيا الذي تواصلت في إطاره باقي محطات النضال الوطني من أجل الاستقلال ..
___
ملحوظة : (هذه فقرات من قراءة وعرض مفصلين لمصنف ” شهادات وتأملات” للراحل عبد الرحيم بوعبيد , نشرتها لي مجلة ” النهضة” ع 19, ومجلة “المشروع” في عددها الأخير )