الروائي والصحافي الجزائري سعيد خطيبي يكتب: الجزائر التي لم تقرأ فرانز فانون
أن ينهزم منتخب الجزائر ضد منتخب من أوروبا أو من أمريكا اللاتينية، فذلك أمر عادي، يدخل في منطق اللعبة، التي تحتمل الربح والخسارة، بل شاهدنا المنتخب وهو يخسر أمام فريق محلي من البرازيل بسباعية، ولا شيء حصل بعدها، أن يخسر أمام واحد من الجيران العرب، فذلك أيضاً واقع لا يحتمل مزايدات، بل يدخل في باب العثرة، لكن أن ينهزم أمام واحد من نظرائه الآخرين في افريقيا، لاسيما منتخبات ليس لها تاريخ في البطولات الكبرى، فسوف تحصل هزة عنصرية، سيتدخل الناس في التبريرات، ينوبون عن اللاعبين وعن المدرب وعن اتحادية الكرة، ويحتلون موقع المنظرين والعارفين والخبراء والحكماء، متفقين في نقطة واحدة هي، أن الهزيمة أسبابها لا رياضية، مردها السحر والشعوذة والغيبيات، ثم تندلع حرب كلامية في المدرجات أو خارج الملعب، في المقاهي أو في السوشيال ميديا، في التنبؤ بهوية مشعوذ جزائري من شأنه أن يطيح بسحر الآخرين، نبحث عن مشعوذ بدل لاعب أو مدرب، تصير القضية قضية دجال ضد الآخر، لا قضية خطط تكتيكية لم تؤت أكلها، أو مدرب لم يفلح في خياراته،
وهذه الهجمة الغيبية لا تتكرس سوى ضد دول افريقية شقيقة، تصير المسألة كلها تدور حول الاستهانة بالغير وجحد قدراتهم، كما لو أن بعض افريقيا لم يخلق سوى لينهزم أمام الجزائر، كما لو أن ليس من حقهم الفرح، كما لو أن الجزائري أعلى مرتبة من مواطني تلك الدول، كما لو أن النجاح في وسط أو جنوب القارة، ليس سوى حيلة، لا عملاً أو مجهوداً يشقى الافريقي في بذله.
على هامش بطولة كأس افريقيا، التي تُجرى هذه الأيام في الكاميرون، أشاهد، من حين لآخر، كلما اتسع الوقت، بعض الحصص التلفزيونية، في تحليل المباريات، مع العلم أننا لا نملك محللين رياضيين، بل هم شلة من لاعبي الكرة القدامى، يقضون جل وقتهم في التباكي على ماضيهم الذي لا يتعدى بطولة أو كأسا محليين، نسمعهم يرددون: «أنا في وقتي.. أنا كي كنت نلعب» قلت أحاول سماع تحليلاتهم البسيطة للمباريات، أتحمل ثرثرتهم وثقل دمهم، وأكثر ما شد انتباهي تغير ألفاظهم مع مرور الأيام، مثلاً قبل بداية البطولة، بينما كانت الجزائر مرشحة فوق العادة، كانوا يذكرون كل بلد باسمه: سيراليون، غينيا الاستوائية، مالاوي، زيمبابوي، إلخ، في وقت لاحق، عقب إقصاء الجزائر من الدور الأول تغيرت كلماتهم، استوردوا قاموساً آخر، صاروا يقولون منتخبات افريقيا السوداء.
نعلم أن الصحافة الرياضية هي الحلقة الأضعف من بين أنواع الصحافة الأخرى، في الجزائر، هي باب يلج إليه كل فاقد للأمل، كل باحث عن شهرة سريعة وزائفة، لكنها في السنين الأخيرة زادت تدهوراً، وكلماتها غير المسؤولة صارت على ألسنة الناس العاديين.
«أفريقيا السوداء» هذا المصطلح الذي يختزن تاريخاً من العنصرية، مع أن الكلمة الأصح: دول جنوب الصحراء الكبرى، لكن هناك من يصر على لون البشرة، على تفرقة إثنية، للفصل بين افريقيا البيضاء في الشمال عن نظيرتها في العمق، هكذا سار الناس في نهج هؤلاء المحللين، صاروا أيضاً يصفون دولا ومنتخبات حسب لون بشرتهم، لا بذكر أسمائهم، باتت العنصرية الناعمة، التي تتداولها الألسن بخفة وضحكة لا تفرق بين هزل وجد، قضية وطنية، ومن المنطقي أن يتأثر الافريقي الواقع خلف جنوب الصحراء بهذا الكم من العنف اللفظي، الذي لا نحسب له حساباً، نظن بحكم أننا نتكلم عربية فلن يفهمونا، لكن وقع العكس وصارت العنصرية من الجانبين، طرفان من قارة واحدة يتبادلان سوء النوايا اللفظية، والأغرب أن يصدر هذا الأمر من بلد عاش فيه وكتب فيه فرانز فانون، الذي كان أول من نبهنا إلى القاموس الكولونيالي، وأن اللفظة ليست بريئة، وأننا بهذه التفرقة العرقية إنما نطيل عمر الاستعمار.
لقد عانى الجزائري أيضاً من عنصرية المستعمِر، من استصغاره له ومن نعته بكلمات مسيئة، ونبّه فرانز فانون من خطر أن يُمارس المُستعمَر سلوكيات عدوه، أن يتحول إلى وحش وهو يواجه الوحوش، لكن للأسف وقع ما خشيه، فحين تنهزم الجزائر أمام منتخب من دول جنوب الصحراء، يصير العيب في الأرضية، في المناخ، في السحر وفي المشعوذين ـ الذين لم يخبرنا أحد عن هويتهم، بل فقط يتنبؤون بوجودهم ـ على الرغم من أن الكرة في افريقيا بلغت درجة متقدمة من الاحترافية، مع أنه لا المدرب ولا اللاعبون اشتكوا من العوامل الخارجية أو الغيبية، وحين نخسر أمام فريق أوروبي فردود الفعل تصير سوية، منطقية، تذهب في باب تحليل المباراة لا ما خلفها، أما إذا فزنا على منتخب أوروبي فيشعر الجزائري كما لو أنه حقق انتصاراً عسكرياً، ففي عام 1982 فازت الجزائر، في الدور الأول من كأس العالم، على ألمانيا، لم يكن مجرد فوز (على الرغم من أن المنتخب أقصي من المرحلة الأولى وقتها) بل صار شأنا قومياً، واستمر التلفزيون العمومي يعيد بث تلك المباراة، سنوات وسنوات، دونما مناسبة، والسبب ليس أننا فزنا في مباراة، فقبلها كانت الجزائر في نهائي كأس افريقيا، وفازت على منتخبات القارة، لكن الفوز على الأوروبي إنما هو أيضاً انتصار المستعمِر، على الغرب، ألمانيا كانت تمثل ذلك الوجه الغربي، والتركيز على تلك المباراة إنما هي محاولة إثبات الذات إزاء الغربي، كما لو اننا نقول له: نحن هنا، هل رأيتنا، إننا موجودون، فكلما التفت الغربي إلى الجزائري زاده ثقة في النفس، يشعر الجزائري بأن له وجوداً، أنه يحيا وأن له مكانة في العالم، ينتظر من الأوروبي أن يطمئنه بأنه بخير، أنه إنسان كامل، يصغي إليه بكل فرح، أما أن تأتي تلك الهمسة من افريقي مثله فذلك لا يحرك شيئاً في قلبه، الجزائري يشعر بأنه حي حين يعترف به الغربي.
نعلم أن الصحافة الرياضية هي الحلقة الأضعف من بين أنواع الصحافة الأخرى، في الجزائر، هي باب يلج إليه كل فاقد للأمل، كل باحث عن شهرة سريعة وزائفة، لكنها في السنين الأخيرة زادت تدهوراً، وكلماتها غير المسؤولة صارت على ألسنة الناس العاديين، ولسنا ندري لماذا لا تتدخل سلطة السمعي البصري في ضبط هذا «السوق» الذي بلغ حالة من الهيجان، صرنا كلما انهزم المنتخب في افريقيا رفعنا رصيدنا من خصوم محتملين جدد.
المصدر: القدس العربي