كوكاس يكتب: إدريس الخوري…. نِبْراس الليل وآخره
“أنا لم أضحك
ولكن الذي استغوى أساريري
انتصاراتي على الموت
امتدادي في مهب الريح
تفجيري الأسى
في سطوة الدهر اللعينة
أنا من أسلم للخلد يقينَهُ”.
أحمد المجاطي “الفروسية”
مثل شجرة باسقة يظل “بَّا إدريس” مشدوها لأصوات تأتيه من سماء بعيدة لا تُظلل أفقنا، سماء لا تصلها أيدينا.. يُكَوِّم الليل في النهار قبل أن تسكت شهرزاد عن الكلام المباح، وينسج من خيوط النهار حكايا للمساء، كي لا تنام النجوم، لعل ذلك مصدر خبرته بدهاليز الليل وبالجغرافيا السرية للمدن الكبيرة والصغيرة على السواء!
دائما يقتعد عروش الهامش، يُعدُّ البيوت لمن يسكن الخيام ويُحصي خسائر الحياة لمن لم يولد بعد.. ويمتص رحيق الغمام لأن كل مياه الحياة لا تُطفئ عطشه.
ظل إدريس الخوري يُخلط الليل بالنهار، والنهار بالليل، كما لو أنه يبحث عما يجعل الشمس تشبه الحقيقة، وما يجعل الليل يماثل قبلة عاشق يموت صبابة على جبين النهار.. لم أر إنسانا مثله تستهويه الحياة وتشده إلى التفاصيل الدقيقة منها، مثل ثنايا فستان أنثى تمشطه الريح أو ترصد وهجه ريشة فنان موهوب..
يخاف على أحلامه من العبث، لذلك يُسَوِّرها بغلاف شفيف، يُخفي أحزانه حتى عن المقرَّبين منه، بابتسامات ساخرة يُطْلقها مثل فراشات نظل نطاردها مثل خيط وَهْم..
في انفلاته من جسده يختبئ إدريس الخوري في فكرة أو ثنايا حلم، وفي فراره من مطاردة فكرة جِنِّية يختبئ في جسده مثلما اختبأ “يوسف في بطن أمه”، وبينهما ينتشر لحظات بين اللغة وظلها، بين الوجود وسحره.
ليست غُربة الكاتب عن المدينة هي ما نلمسه في إبداع الخوري، بل تشوُّهات الأمكنة إلى حد المسوخ، وإذا كان الرجل كائنا غير زمني في معانقته للحياة، فإنه يقيم في الأمكنة ذاكرة ومعنى، لذلك نحس في حكاياته حنينا قاسيا لمدام كيران وملح وإبزار و”مطروبول” ومدام بوليت وزوجها الموسيقي موسيو جورج…
أمكنة موشومة بذاكرة التيه في مدينة أشبه بالوحش الأسطوري، نحس كما لو أن إدريس الخوري ذاكرة تسير على قدمين، تختزن في ثناياها شغب الأطفال وحكمة الشيوخ، ذلك أنه في الوقت الذي كان يكدس فيه الآخرون علف السنين من وسخ الدنيا وينمون أرصدتهم البنكية، كان “با ادريس” يكدس الأحلام والجراحات والأوهام أيضا!
في تصادم الخطو بيننا في زْوِيريخ بسويسرا ذات ربيع، كنا وحدنا عند منبلج الفجر.. جلسنا قرب تمثالين رائعين بفندق “موفمبيك” نحتسي ما تبقى من ألم وننسج مما فَضُل من خيوط الليل لباسا لعراء النهارات القادمة، فقال لي ممازحا:
– لو كانت هذه التماثيل في قلب العاصمة الرباط، كيف كانت ستكون شخوص حكاياتنا؟
اقترحت عليه أن نحملها خلسة في الحافلة التي سَتُقلُّنا إلى المطار، صمت برهة وهو يحك شعره، كما لو يستحث فكرة على الخروج بسرعة، وقال مستحسنا:
أجمل الأفكار هي تلك التي يقترحها الجنون وينفذها العقل!
وقام محاولا اقتلاع التمثال الضخم، وحين أَعْيَته الحيلة صعد إلى أعلى تمثال في ساحة الفندق، وابتلع كل قهقهات المساء ونام بأمان مثل طفل شقي يرفض كل أوامر الطاعة ووصايا السَّدَنَة!
أحيانا يُخيَّل إليَّ أن إدريس الخوري منتوج خيال وليس كائنا تاريخيا، يأبى على التصنيف.. بلا حدود يحكي، عن الحدائق التي لم تعد تُلهم الشعراء والرياض التي جفَّ ضرعها ولم يصبح بإمكانها منح زهرة يهديها العاشق لمعشوقته، عن الكُتاب الذين عاشوا بالصحبة وفرَّقت بينهم سُبل الحياة.. كانت الكتابة أكبر مهنة للوهم ساعدته على اقتسام رغيف الحب مع من عشقوه، ولأن قسوة الأيام كانت أقوى من كل وَهْم، فقد تعلم “بَّا دريس” كيف يحول الآلام إلى سخرية يطلقها مثل عصافير تتمنَّع عن العيش في قفص صدره.. حين يسخر بعباراته التي يحفظها الصديق مصطفى النحال.. وأنت سير.
في صمته قد تسمع إيقاع انكسار الموج على الرمل، وتُحس بوجع ذبول وردة في مزهرية، وتسمع هسيس حكايا ما تقوله النحلة لحظة توديع وردة، وفي انفلاتاته انتظر الهباء وكَوْمة من غضب..
ليس أبهى من إدريس الخوري في لحظات صفائه حين يكون متصالحا مع الوجود، يبدو شفيفا مثل نبي لا يحب حشد الأتباع والحواريين. ويسخر “اللاكس فاكس”.