الديمقراطية ثقافةً
قد يكون هناك إجماعٌ على أفضلية النظام السياسي الديمقراطي، مقارنةً مع الأنظمة السياسية الأخرى، على الرغم من النواقص والأزمات التي نُلْحِق بالديمقراطية وبكيفيات تدبيرها الاختلاف والتعدُّد داخل المجتمع. إلا أن مزاياها العديدة لا ينبغي أن تنسينا مبدأ الاحتراس من أنظمةٍ سياسية كثيرة تعلن عضويتها في ناديها، أو تُعلن أنها في الطريق الانتقالي المؤدي إليها، وخصوصا الأنظمة السائدة في المجتمعات المتخلفة، أو في المجتمعات ذات الحزب الواحد، وهي المجتمعات التي تتعايش فيها العقائد والخطابات القطعية، سياسية كانت أو دينية.
يكشف تاريخ المجتمعات الديمقراطية أن تبلور الوعي الديمقراطي وتطوره تَطَلَّبا تاريخاً طويلاً من الصراع المتعدّد الأوجه الذي أفضى إلى بناء المجتمع الديمقراطي، أي بناء مقومات (وأسس) الثقافة والتربية والقيم الديمقراطية، حيث تُعَدُّ الأخيرة بمثابة خلاصة لتجربةٍ في التاريخ، تَمَّ فيها الانتصار على واحِدِيَّة الفكر وانغلاقه وشموليته، كما تَمَّ فيها إقرار جملة من المبادئ التي تقبل التعدّد والاختلاف داخل المجتمع، الأمر الذي يفضي إلى التعايش وقَبُول التعاقد، لتدبير قواعد العمل المشترك ودوائره. وقد ساهم ذلك كله في تبلور مجموعة من المبادئ والقيم، وجملة من الإجراءات المرتبطة بفلسفات ونظريات، ساهمت في ميلاد مجتمع جديد.
لا يمكن أن تُخْتَزَلَ الممارسة الديمقراطية في التقنيات والإجراءات المصاحبة لها، كما أنها لا تنشأ بفضل لِجان المراقبة الوطنية والدولية. وإذا كان مؤكّدا أن ما سبق ذكرُه يشير فعلاً إلى بعض مظاهر وآليات اشتغالها، فإنه لا يؤسّسها، ولا يصبح النظام السياسي ديمقراطياً، بمجرد إعداده الصناديق الشفّافة واللجان المؤطرة لإجراءات الممارسة والفعل الديمقراطيين، ذلك أنها تفترض، أولاً، وجود وطن حُرّ ومستقل، يتنافس مواطنوه على تأسيس أجهزة تدبير مراكز السلطة ومؤسساتها داخله، ثم بلورة الإجراءات المناسبة، لعمليات التدبير المُشترك لمقتضيات التعايُش والتعاوُن، من دون احتكار للحقيقة والقوة . ويترتَّب عن ذلك أن الديمقراطية سيرورة تاريخية مركّبة ومعقدة، إنها مسلسل في التحرير، لا يوفر فقط الضمانات التي تقي المجتمع من شرور الاستبداد والأنظمة الشمولية، بل يوفر الشروط المناسبة لتدبير الاختلاف داخل المجتمع.
تتجّه أغلب الأنظمة السياسية العربية، إلى منح الإجراءات والأمور العملية في المشروع الديمقراطي عناية كبيرة، مع تغييب المرجعيات النظرية المؤطّرة للفعل الديمقراطي. ولعل مراجعةً سريعةً لكيفيات تشكّل التجربة الديمقراطية في تاريخ الفكر والممارسة السياسية في المجتمعات الديمقراطية، يثبت بجلاء المواكبة التي حصلت، وما فتئت تحصل، في هذا التاريخ بين المرجعية الفلسفية الحداثية وتجليات الفعل الديمقراطي في الفضاءات السياسية والاجتماعية والثقافية.
المواكبة المقصودة هنا ليست فعلاً ميكانيكياً، إنها جدليةٌ تاريخيةٌ مركّبة، تتضافر فيها الجهود وتتداخل. وقد أكسب هذا الأمر مشروع العمل السياسي الديمقراطي أرضيات إسناد تاريخية وفلسفية عملت على تعزيزه، في إطارٍ من التطوّر وإعادة البناء، المُؤَدِّيَيْن إلى مراكمة الخبرات والتجارب، مع السعي المتواصل إلى الاستفادة منها بتجاوز عثراتها، وتقليص سلبياتها والعمل المتواصل، من أجل مزيد من تطويرها، في تفاعلٍ مع تحولات مجتمعنا ومستجدّات عصرنا، وهو الأمر الذي يتيح لنا بناء البدائل القادرة على الحدّ من الأزمات التي تفرزها سيرورتها التاريخية.
لا نجاح للممارسة الديمقراطية وتطوّرها، من دون إيمانٍ بقدرة الإنسان على صناعة تاريخه، وكذا إيمانه بنسبية المعرفة والقيم، وتسليمه بدور التوافقات التاريخية في ترتيب مجال الصراع السياسي داخل المجتمع. وتُبرز المبادئ النظرية العامة التي تقف وراء بناء المشروع السياسي الديمقراطي، وإعادة بنائه، أن هذا المشروع لا يتجلّى فقط في فضاء العلاقة بين المجتمع والدولة، بل إنه يتحوّل إلى آلية سلوكية عامة، تَجِدُ لها في مختلف فضاءات المجتمع مَسَالِك تسمح بتعميمها، ثم ترسيخها، للتمكّن من تحويلها إلى أفقٍ في الفعل التاريخي الإنساني الجامع، داخل الأسرة، وفي المدرسة والمصنع والحزب والنقابة.. ثم في مجال تدبير الشأن العام، بمختلف مستوياته وأشكاله.
تعود جوانب عديدة من صور الارتباك، الحاصلة اليوم في أنظمة سياسية عربية كثيرة، إلى تغييب مبدأ ارتباط الممارسة الديمقراطية بأفق الحداثة والتحديث، فقد وجدنا أنفسنا، في السنوات الأخيرة، أمام تنظيماتٍ سياسيةٍ لا تتردّد في استخدام المفردات أعلاه، ولا تجد، في الوقت نفسه، أي حرجٍ في الدفاع عنها بلغة القدر والغيب، مُغفِلةً الأسس النظرية والتاريخية التي تبلورت في إطارها المفاهيم المذكورة، ما يضعنا أمام إشكالات جديدة، تتعلق بصور الخلط التي تمارس اليوم في ثقافتنا السياسية، ما يدعونا إلى مزيد من دعم وتقوية منطق العقل والتاريخ ولغة الإرادة والتداول، والمسؤولية والمحاسبة والتشارك، بحكم أن الأفق النظري والتاريخي الذي ترسم هذه المفردات يستوعب مجموعة من المبادئ الفلسفية العامة، وجملةً من القيم الناظمة لتحوُّلات المجتمع الجديد الذي نفترض أنه يمارس بدوره عمليات الإسناد اللازمة، لغرس قيم الفعل الديمقراطي وتجاربه في حاضرنا.