السياسة النقدية في المغرب إلى أين؟
إدريس الكتامي.. رئيس الهيئة الوطنية للمحاسبين العمومي لوزارة الاقتصاد والمالية
المتتبع للشأن الاقتصادي بالمغرب، يلاحظ أن السياسة النقدية عرفت مؤخرا مجموعة من الارتجاجات والتحولات العميقة نتيجة الإقدام على بعض الاختيارات الاقتصادية الغير محسوب.
ولعل أبرزها هو ما أقدمت عليه الحكومة سنة 2018 حين اعتمدت سياسة التعويم الجزئي لسعر صرف الدرهم، حين سمحت بهامش التحرك بنسبة 2.5 بالمائة صعودا ونزولا أمام سلة عملتي اليورو بنسبة 60 بالمائة والدولار الأمريكي بنسبة 40 بالمائة، وذلك في إطار ما سمي آنذاك بإصلاح نظام سعر الصرف الذي نادى به صندوق النقد الدولي.
ومن حسن الحظ أن هذه الخطوة لم تخلف آنذاك أي ارتباك على مستوى الاقتصاد الوطني , نظرا لكونها كانت محدودة في هامش التحرك من جهة وتمتع الاقتصاد المغربي بدرجة مستقرة في الأنشطة التجارية وميزان المدفوعات , مع توفره على كتلة من النقد الأجنبي كافية وآمنة من جهة أخرى.
وفي سنة 2019 صدر تقرير عن صندوق النقد الدولي يوصي فيه المغرب بتوسيع نطاق تحرير سعر صرف العملة الوطنية , لتلجا الحكومة من جديد إلى تعويم سعر صرف الدرهم بتوسيع هامش التحرك إلى 5 بالمائة , بدعوى حماية الاحتياطات الأجنبية وجعل الاقتصاد الوطني في وضع أفضل , واستبعاد الصدمات الخارجية المحتملة والحفاظ على القدرة التنافسية.
وعلى العموم , إذا كانت الحكومة المغربية قد انخرطت في عملية التعويم التدريجي لسعر صرف العملة الوطنية سواء كان ذلك كخيار احترازي أملته الظرفية الاقتصادية أو نتيجة الضغوطات التي مارسها صندوق النقد الدولي لتحسين وضعية الاقتصاد الوطني , فان المتغيرات التي يشهدها الاقتصاد العالمي جراء التوترات الجيوسياسة وخاصة منها الحرب الأوكرانية الروسية وما نتج عنها من ارتفاع قياسي لأسعار الطاقة والمواد الأولية، يجعل من غير المنطقي الاستمرار في سياسة التعويم أو الإقدام على التعويم الشامل كما يوصي بذلك صندوق النقد الدولي، خاصة إذا علمنا أن ثلث الدخل الوطني مرتبط بشكل أساسي بالخارج، كما أن استفحال ظاهرة التضخم بكل من الولايات المتحدة الأمريكية ودول منطقة اليورو يجعل الحكومة في حل من التزاماتها اتجاه المؤسسات المالية لانتفاء الشروط الموضوعية والمناخ الاقتصادي الملائم لسياسة التعويم، خاصة إذا علمنا أن السيد والي بنك المغرب كان في البداية جد متحفظ على إقدام الحكومة على سياسة التعويم، كما أن هناك مجموعة من الخبراء الاقتصاديين المغاربة الدين اعتبروا ما أقدمت عليه الحكومة لم يكن أولوية للاقتصاد الوطني الذي ضل محافظا على توازنه واستقرار مؤشراته الماكرو اقتصادية .
هذا وفي خطوة لا تقل أهمية وخطورة عما سبق أقدم السيد عبد اللطيف ألجواهري والي بنك المغرب مؤخرا وبشكل مفاجئ وغير منتظر على رفع سعر الفائدة الرئيسي إلى 2 بالمائة، مخالف بذلك كل التوقعات.
والتوصيات التي تشير إلى الإبقاء على معدل الفائدة بدون تغيير أي عند حدود 1.5 بالمائة، وقد برر والي بنك المغرب ذلك بالقول: “أن هذه الخطوة تهدف إلى كبح ظاهرة التضخم والحد من ارتفاع الأسعار” حيت أشارت بعض التقارير أن نسبة التضخم التي عرفها الاقتصاد الوطني في الشهور الأخيرة من هذه السنة بلغت مستويات قياسية، حيت بلغت 8 بالمائة في شهر غشت الماضي وهو أعلى مستوى للتضخم يعرفه الاقتصاد الوطني منذ سنة 1995.
كما أكد السيد عبد اللطيف ألجواهري في المؤتمر الصحفي الذي عقب اجتماع المكتب المركزي لبنك المغرب: ” أن رفع سعر الفائدة إلى 2 بالمائة لن يكون له تأثير كبير على النمو الاقتصادي للبلاد , مقدرا ألا يتجاوز التأثير حدود 0.1 بالمائة إلى 0.2 بالمائة, مشددا أن الهدف الرئيسي لرفع سعر الفائدة هو كبح التضخم بسرعة وتفادي انتشاره واستدامته”.
إلا أننا لا نوافقه هذا الرأي وذلك انطلاقا من نظرتنا السوسيو اقتصادية وتحليلنا العميق للظرفية والتقلبات الاقتصادية على المستويين الدولي والمحلي، حيت نرى أن من شان هذه الخطوة أن تعمق من التأثيرات السلبية التي يعاني منها الاقتصاد الوطني الذي لم يتعافى بشكل كامل من تداعيات الأزمة الوبائية وأصبح يئن تحت وطأة الأزمة العالمية لارتفاع أسعار الطاقة والمواد الأولية والغذائية ومخلفات الجفاف.
كما أننا نعتبر هذه الخطوة تتعارض مع البرامج والسياسة الحكومية، خاصة وهي بصدد إعداد مشروع قانون المالية للسنة المقبلة والذي من المنتظر أن يعرف تنزيل مجموعة من الاوراش الاجتماعية وخلق فرص شغل جديدة في إطار السياسة الاجتماعية التي نادى بها صاحب الجلالة الملك محمد السادس.
وبالرجوع إلى الهدف المعلن من رفع سعر الفائدة, المتمثل في مواجهة التضخم من خلال كبح عمليات الاقتراض وتقليل نسبة السيولة في السوق، مما يعني الإضرار بالقدرة الشرائية للمواطنين ورفع تكلفة الإنتاج بالنسبة للمهنيين وتقليل فرص الاستثمار الوطني والأجنبي وتقليص حجم الرواج الاقتصادي مما سينعكس بدوره على سوق الشغل وارتفاع معدل البطالة، وهو ما يعني انخفاض معدل النمو, بحيث يتوقع أن ينخفض معدل النمو هده السنة إلى 0.8 بالمائة هذه السنة عوض 7.9 السنة الماضية.
لذلك، نوصي بالعدول عن هذا الإجراء الذي لا يتناسب مع الظرفية الحالية للاقتصاد الوطني والتقلبات المتسارعة التي يعرفها الاقتصاد العالمي، باعتبار أن الدول التي تلجا إلى رفع سعر الفائدة الرئيسي يكون اقتصادها قويا ولها مخزون كبير من النقد الأجنبي وصادراتها جد مرتفعة وبالتالي تحقق مكاسب كبيرة من العملية، عكس الدول ذات الاقتصادات الناشئة والتي يعرف ميزانها التجاري معدلات سالبة، فان الإقدام على هذا الإجراء يضر بشكل كبير باقتصادها ونموها …
وفي الختام فاننا نعتبر الأزمة الاقتصادية العالمية الحالية هي الاخطر من بين الازمات التي عرفها الاقتصاد العالمي وانها لم تفشي بكل أسرارها وخباياها ومن المرجح انها في طريقها إلى إفراز ظاهرة اقتصادية ناذرة وخطيرة ألا وهي ظاهرة ما يعرف بالكساد التضخمي… والتي لا تعالج إلا باتخاذ إجراءات اقتصادية شاملة ومبتكرة وقرارات سياسة جريئة وسيادية.