السعود الأطلسي يكتب: الحكم الذاتي اختيار دولي
القوى الكبرى، المُؤثرة في هذا العالم، في صراعها حول هذا العالَم وبهذا العالَم، بلغت درجةً من الحِدَّة في الصِّراع حول إعادة رسم خريطة النفوذ بينها، إنها ما عادت “تُطيق” صراعات، محجوزة التطور ولا تقع على خط التماس بينها… من نوع النزاع حول الصحراء المغربية… لأنه نِزاع مُؤطَّر بالثقافة الإستراتيجية للقرن الماضي… ولأنه نِزاع مُفتعل، لا أصل له ولا مدى استراتيجي له، يستجيب فقط لحاجيات التدبير الداخلي لحكم الجزائر… نزاع “يُشَتِّت” اهتمامات القوى الكبرى، المتصارعة، عن انشغالاتها الملتَهِبة، ويُهدِّدُها بإحداث ثُقوب في استراتيجياتها أمام ضرورة تدبيرها لتوازناته…
في الفضاء المتوسطي أو في القارة الإفريقية… والتوتُّر في الوضع العالمي يزداد ويتعمق، تكون القوى الكبرى في حاجة أكثر لإخماد ذلك النزاع “الصغير” و”المحدود”… ولهذا تلقت تلك القوى مُبادرة الحكم الذاتي المغربية مُرحِّبة، بالتصريح أو بالتلميح، وجسَّدته في قرار مجلس الأمن للسنة الماضية، والذي لم تعترض عليه روسيا، واكتفت حُياله بالامتناع بما يُفيد، عمليا، عدم عرقلَتِه، والمصادقة عليه بمُسحة خفيفة من التحفُّظ…
تلك القوى المؤثرة تريد حلا للنزاع، سِلمي، مُتوافق عليه، عادل ودائم… وهو ما يهدف إليه مُقترح الحكم الذاتي… وهو المقترح الذي لن تُنتج طبيعة النزاع أعلى منه، مهما طال واحتدًّ…
كل القوى العظمى المتصارعة، ربطتها وتربطها مع المغرب ومنذ عقود، علاقات صداقة، تعاون، احترام وتفاهم… المغرب قاوَم إغراءات الأحْلاف والانحشار في اصطفافات الحرب الباردة… أفهمَ أصدقاءه بأنه صديق، وبموجبات الصداقة، وأهمها الاحترام المتبادل، وليس مُواليا وتابعا لهم، وفرض بذلك احترامهم له… واليوم بمُمكنات المغرب الاقتصادية، الديبلوماسية والأمنية باتت حاجة كل تلك القوى العظمى مُنفردة، إليه أكثر أهمية… تأسيسا على رصيد علاقاتها معه، ولحاجة عدم استفزازه و”استفراد” خصمها به…
ومن مَوْقعه هذا اكتسب المغرب مرونةً في تدبير علاقاته مع القوى الكبرى، والعبور من فجوات تناقضاتها برشاقة سياسية لا تُزعج أحدا ولا تضرُّه، هو، لا معنويا ولا ماديا… وميزتُه هذه عزَّزت الثِّقَة الدولية في جاهزيته، فقط، للسلم وللتبادل المثمر للمنافع… في علاقاته وفي العالم… وكان ذلك من حوافز الإقناع بمصداقية مُبادرة الحكم الذاتي للحل السلمي للنزاع حول الصحراء المغربية… ولفائدة إِخماد توتُّر جانبي، مشوِّش على “تفرغ” القِوى العُظْمى لصراعها المركزي والرئيسي بين طرفيها الكبيرين…
الغرب، الاقتصادي والسياسي بقيادة الولايات المتحدة. والشرق، بزعامة روسيا… ذلك الغرب لديه الحلف الأطلسي، العسكري والسياسي… والشرق أنتج مجموعة شنغهاي، ولها اليوم بيان سمَرْقَنْد الذي يُوَجِّهها ويَوَضِّح مُنطلقات صراعها مع الولايات المتحدة وحلفاءها… هذه المجموعة تُمَثِّل اليوم أكثر من نِصف سكان الأرض، ومن مُكوناتها الكبيرة، روسيا، الصين، الهند واستطاعت استقطاب تركيا، الحليف التقليدي للإدارة الأمريكية، وعضو منظمة تحالف الأطلسي…
في حين.. يُحاول الغرب تنشيط العضوية داخله وحقنها بالحس التضامُني، وهو الذي أنتج داخله تناقضات وتنافسات، مثل حالة أوروبا مع أمريكا، ومثل ما ينْخُر الوحدة الأوروبية نفسها من صراعات فرنسية، ألمانية وبريطانية… مسرح هذا الصِّراع المركزي اليوم، هو أوكرانيا، وبماله من تداعيات ملموسة على العالم اقتصادية، تجارية، بترولية وعسكرية…
وهو يمتد إلى كل أطراف العالم… ويتَّجِه، إذا لم يؤَدِّ إلى نهاية العالم، إلى إعادة النظر في قواعد تركيبة النظام العالمي… بدأ من الدولار في التجارة العالمية بكل ما لذلك من دلالات، وتحوُّلات اقتصادية وسياسية، وُصُولا إلى إعادة تجديد النفوذ السياسي والاقتصادي للقوى في النظام العالمي… إنه تحَوُّل تاريخي في الوضع العالمي… المغرب جاهز له، بتاريخه، بمُؤَهِّلاته وبطبيعة دولته… بينما القيادة الجزائرية مُصابَة بعُسر هضم التطورات العالمية، لأنها لا تتصرَّف باستراتيجية دولة… ولا تُعبِّر عن حساسية شعبها، تقودُها مصلحة مكوناتها، الفئوية والمحدودة… وهي بهذا تشكل عائقا لتحوُّل مطلوب، دوليا، في نزاع هو اليوم عِبْئٌ على العالم.