أين تعلم كل هذا؟كي يكون هكذا بكل هذا العناد وهذه الروح القتالية… حكيم زيّاش: طائر الوقواق
إنه حكيم زياش الحكيم، الولد الذي تشعر كما لو أنك تعرفه. إضافة إلى أنه لاعب بقدرات خارقة. تحس أيضا أنه صامت حتى وهو يتكلم، ويتكلم حتى وهو صامت. لا أعتقد أن المنتخب المغربي كان سيكون كما كان في هذا المونديال في غياب زياش. هذا المايسترو الذي يبدو جليا كما لو أنه أب أو أخ أكبر لباقي اللاعبين، يتحدون معه وينفرطون في غيابه.
لاعب ذو شخصية. لا يترك لك إلا أن تحترمه حتى وإن اختلفت معه. إنه أحد شعراء كرة القدم بنحافته وملامحه الدقيقة المعبرة التي تسكنها أحزان دفينة. هل الشعر كلمات وقصائد فقط؟ كلا. إنه تلك الروح الإنسانية حين تفيض في أي شيء وفي كل شيء.
تشعر وأنت تنظر إلى زياش أن الأمور مصيرية وحاسمة وجدية للغاية، وأن خسارة مقابلة هي مسألة حياة أو موت. علاقة هذا الولد الشقي بكرة القدم تتجاوز اللعب إلى ما هو أبعد وأعمق من كرة القدم ومن الشهرة والمال والنجومية، إنها تحد بالنسبة إليه، انتصار على اليتم والانحراف، طريقة لإثبات شيء عصي على الإثبات.
أراده الهولنديون بشدة لذلك عاتبوه بشدة. لعلهم شعروا أنه يحمل طباعا تنتمي إليهم أكثر من انتمائها إلى بلد أصوله القديمة المغرب. رغم ملامحه غير الهولندية. لعل هذا الأمر الأخير هو ما جعله يختار انتماءه إلى المغرب ويحسم فيه. أيضا لعل هذا الأمر نفسه هو ما يستعصي على الأوروبيين فهمه: الملامح، إنها نداء الجينات الفاضح. لا يكفي أن تولد في بلد وتكبر فيه وتتعلم لغته وثقافته حتى يمحي ذلك ذاكرتك الجينية المسجلة بالصلصال في الألواح المحفوظة. إن الملامح في نهاية الأمر تكذب الغطاسين.
أتذكر هنا حزن ذلك اللاعب (الكاميروني) السويسري إيمبولو الذي سجل هدفا حاسما ضد بلده الأصلي الكاميرون، هدف بقدم سمراء لصالح سويسرا. لم يستطع الاحتفال بإنجازه العظيم. لقد سجل ضد أعماقه، ضد نفسه. كانت الدموع داخله أقوى، سوى أنها دموع التمزق هذه المرة، عوض أن تكون دموع فرح بهدف تافه في شباك تافهة. إنه نداء الجينات اللجوج. نداء اللون والروح وقسمات الوجه. ذلك النداء الحزين والحار: نداء أرواح الجدات والأجداد.. نداء الأسلاف..
لا تبدو الخيارات سهلة ويسيرة كما قد يعتقد البعض. ليست مريحة على الإطلاق ولا تساوي ما يعادلها مالا. إنها خيارات لا يعادلها ويساويها إلا ذلك التمزق المباغت والحاد داخل الأعصاب.
تأملوا جيدا نظرات زياش، تقاسيم وجهه الشاعرية، هدوءه غير الاعتيادي، صمته البليغ. إنه ابن تلك التمزقات الحادة التي لن تلتئم بنصر كروي سوى أنها تستكين به وتهدأ إلى حين
تأملوا جيدا نظرات زياش، تقاسيم وجهه الشاعرية، هدوءه غير الاعتيادي، صمته البليغ. إنه ابن تلك التمزقات الحادة التي لن تلتئم بنصر كروي سوى أنها تستكين به وتهدأ إلى حين. إنها قصة حزينة رغم كل شيء. رغم تحقيق أمجاد استثنائية. في الوقت الذي تنكر فيه هو لهولندا تنكر المغرب له، فكانت أسئلة الصحافة الهولندية له قاسية وجارحة. كيف تختار بلدا تنكر لك؟ كيف تتنكر لبلد احتضنك ورعاك وأغدق عليك؟ هل الأم هي التي تلد وتنسى أطفالها أم تلك التي تربي؟
ورغم ذلك كانت أجوبة زياش قصيرة ودقيقة ومركزة كالطلقات وغير قابلة للتفاوض: لقد اخترت الأم التي ولدتني رغم قسوتها. لست نادما..
إن عاد بك الزمن إلى الوراء قبل أن يتنكر لك المنتخب المغربي ماذا ستختار، أن تلعب باسم هولندا أم باسم المغرب؟ سأختار أن أولد وأكبر وأموت في المغرب.
يا لها من أجوبة حاسمة وصارمة وحزينة، تحزن الهولنديين كما تحزن المغاربة أيضا. أجوبة مركزة بشدة كطلقات لا تصيب سوى القلب.
أين تعلم زياش كل هذا؟ كي يكون هكذا بكل هذا العناد وهذه الروح القتالية النحيفة الصلبة وهذا الحسم القاطع؟ لقد تعلمه دون شك على يد معلم مجاني وقاس ومعاد اسمه: الاغتراب. اغتراب البذور..
رغم الولادة في بلاد أخرى لم تتغير الملامح ولا الروح. الملامح لم تصر بيضاء أو شقراء والروح ظلت حامية حتى في الجليد.
هل نتابع كرة القدم فقط كي نشاهد الأهداف ونفرح حين ننتصر ونحزن حين ننهزم؟ إنها أبعد من كل ذلك حين تعطينا دروسا أيضا. حين تخبرنا عن ذواتنا ما لم نستطع إليه سبيلا ولا علما. إنها، وهذا أهم من فوز بكأس أو خسارته، تهدينا تلك الدموع القادمة من البئر العميقة والدافئة للدواخل الإنسانية الخفية. سواء كانت دموع فرح أو دموع حزن إنها تجد الأسباب أخيرا لتنبع منا، لتتدفق، لتسقينا، لتطهرنا.
تأملوا جيدا ملامح زياش منتصرا أو منهزما لا فرق، ضاحكا أم مقطبا، إنها التجسد الأمثل المنحوت بعناية لأسرار الهوية ومطباتها. إنها نفسها ملامح ذلك الطائر الغريب، الوقواق، الذي يبيض في أعشاش الآخرين، تفقس البيضة، يفتح الكتكوت عينيه في عش غريب، يأكل من فم عصفور آخر من نوع آخر، (دون أن يكون هو من اختار ذلك) وحين يكبر ويشتد جناحاه يطير في اتجاه أمه، في اتجاه سرب أجداده، متنكرا لكل رحابة المضيف، ملبيا نداء الأصول كيفما كانت، رؤوما أم سموما.
المصدر: العربي الجديد