5 سنوات أمام أردوغان وحزبه…تركيا الحائرة بين الشرق والغرب
تعيدنا مناسبة الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التركية للسؤال حول علاقة السياسة بالجغرافيا، ذلك أن واحدة من أهم سمات تركيا، الدولة الجارة الأكثر قرباً للعرب، هي كونها تقع ما بين الشرق والغرب، حيث ظلت تركيا، ربما كما هو حال روسيا، إلى حد ما، ضائعة أو تراوح ما بين الشرق والغرب، الغرب المسيحي، والشرق الإسلامي، والغرب الديمقراطي والشرق المستبد. وفي حقيقة الأمر، أن ما يرجح ذهاب تركيا إلى الشرق أو الغرب، هو مصالحها، فإن وجدت في الشرق ضالتها اقتربت منه لدرجة أن تندمج فيه، وإن وجدت في الغرب مصلحة لها، سارعت إليه، وهكذا يمكن القول: إن تركيا قد حققت من موقعها الجغرافي الوسط ما هو إيجابي متمثلاً بالتنوع، لكن ما هو سلبي في نفس الوقت، من اضطراب ما، يذهب بها مرة بعيداً عن الشرق، ومرة أخرى بعيداً عن الغرب.
وبعد حروب طاحنة مع بيزنطة، دولة الغرب الشرقية في العصور الوسطى، على طريق تحقيق الطورانية التركية، أقامت تركيا دولتها القومية، التي بقيت في حالة عداء أو صراع مع الغرب المسيحي، كما هو حال روسيا، التي ظلت تدين بالأرثوذكسية مقابل كاثوليكية وبروتستانتية الغرب الأوروبي، فيما تركيا أكثر ابتعاداً عن الغرب الأوروبي من حيث اختلافها في الدين وليس في المذهب وحسب، ولهذا وجدت نفسها تذهب إلى الشرق حيث تحقق لها الطموح الإمبراطوري على حساب العرب، حين احتلت كل دولهم الحالية، فيما ظهر بعد ذلك على شكل الدولة العثمانية التي كانت تضم إلى جانب تركيا (الأناضول) العرب وبلغاريا فقط.
وظلت الدولة العثمانية أهم دولة في تاريخ تركيا، من حيث اتساعها وقوتها التي أظهرتها كدولة عالمية، تعززت خلالها ملامحها الدينية الإسلامية التي تجمعها مع الشرق العربي/الإسلامي، وإن كان ذلك لم يكن كافياً لتجد توافقاً ما مع إيران الدولة المسلمة الجارة، لكن التي تفترق عنها في المذهب، وربما لهذا السبب، أي كون إيران تدين بالمذهب الشيعي وهو مذهب الأقلية العربية، مقابل المذهب السني الذي تدين به تركيا وتدين به الأغلبية العربية، هو الذي جعل تركيا أقرب للعرب، من إيران، وجعلهم يقبلون استعمارها لهم لمدة أربعة قرون متواصلة.
لكن الحال تغير بعد الحرب العالمية الأولى، فتركيا التي كانت متحالفة مع ألمانيا، خسرت تلك الحرب، وخسرت معها كل مستعمراتها العربية، وهكذا انكمشت من إمبراطورية عظمى إلى مجرد دولة شرق أوسطية عادية، وكان لهذه النقلة تبعاتها، التي دفعت بتركيا نحو الغرب، حيث انضمت إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو)، واعترفت بإسرائيل كأول دولة مسلمة تفعل ذلك، وبقيت الوحيدة طوال عقود، وترافق ذلك مع نقلة نوعية داخلية، رفعت من شأن الطورانية أو القومية التركية، حيث قام مصطفى كمال أتاتورك، أي أبو الأتراك، بتتريك الثقافة التركية، فشطب الحرف العربي، واستبدله بالحرف اللاتيني، وأعلن فصل الدين عن الدولة، وأقام دولة عسكرية، بعد أن أعلن حل الخلافة.
وقد ظلت تركيا أسيرة لأرث أتاتورك حتى ستينيات القرن الماضي، حتى ظهر عدنان مندريس الذي قاد معارضة سياسية لحزب أتاتورك الذي حكم تركيا بشكل منفرد، إلى أن نجح مندريس في تولي رئاسة الحكومة، مطلع خمسينيات القرن الماضي إلى أن أطاح به بانقلاب عسكري وأعدم على أثره في مطلع ستينيات القرن الماضي، حيث أعاد الجيش فرض هيمنته على الحكم، مع ملاحظة أن النظام السياسي التركي كان برلمانياً، لا يتمتع به رئيس الدولة بالصلاحيات التي يتمتع بها رئيس الحكومة.
وخلال عقدَي سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي تداول الحكم، في ظل حكم الجيش الفعلي، كل من سليمان ديميريل، قائد حزب العدالة وزعيم حزب الطريق القويم، أي المحافظ أو اليمين السياسي، مع بولنت أجاويد زعيم حزب الشعب الجمهوري، أو اليسار السياسي.
طبعاً لا بد من ملاحظة تأثر تركيا مثل كل دول العالم، بحقبة حركات التحرر خلال خمسينيات وستينيات القرن الماضي، ثم انتهاء الحرب الباردة، منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي، حيث ظهر الإسلام السياسي، لا ليحل مكان اليمين السياسي في مواجهة اليسار الذي بقي يمثله حزب الشعب الجمهوري، وحسب، ولكن ليواجه دولة الجيش العميقة، لكن بحذر أكثر مما أبداه الإخوان العرب، في مصر على سبيل المثال، حيث رفع حزب الرفاه الذي تزعمه نجم الدين أربكان، شعار الحكم الإسلامي في ظل الدولة العلمانية، حيث نجح أربكان في تولي رئاسة الحكومة عام 1996، كأول حكومة ذات توجهات إسلامية.
ورغم أن الجيش الحاكم الفعلي في تركيا، قام بإسقاط أربكان بعد عام، إلا أن إسلاميي تركيا غيروا من جلودهم أكثر من مرة، وظلوا في الحكم خلال أكثر من عقدين من الزمان، وذلك في ظل حكم برلماني، كما أشرنا، يحكمون أحياناً عبر واجهة غير صريحة في انتمائها الديني، إلى أن تقدم رجب طيب أردوغان، الذي كان زعيم الحزب الإسلامي، لكنه جلس في الكواليس مقدماً عبد الله جول تلميذ أربكان، وعضو حزب الرفاه، الذي رغم ذلك كان يختلف قليلاً مع أربكان، حيث قام مع أردوغان بقيادة حركة تجديدية داخل التيار الإسلامي، ومن ثم التنافس مع حزب الفضيلة عام 2000، وصولاً إلى إعلان حزب العدالة والتنمية عام 2001.
هكذا يمكن القول: إن جول وأردوغان، رغم أنهما اختلفا مع أربكان، إلا أنهما ورثا عنه قيادة الإسلاميين على طريق الحكم، وكان ذلك منذ العام 2002، وكان لأردوغان الدور الرئيس حيث كان رئيساً لبلدية إسطنبول المدينة الأهم في تركيا، حيث تولى رئاسة الحكومة أولاً جول، ومن ثم أردوغان الذي يصف نفسه بأنه ديمقراطي محافظ، من العام 2003 إلى العام 2014، سعى خلال ذلك العقد من الزمان الذي تولى فيه رئاسة الحكومة إلى أن ينتقل بتركيا لنظام رئاسي أكثر مركزية، وفعلاً تولى في ذلك العام رئاسة الدولة.
هكذا يمكن القول: إنه بعد أتاتورك، يبدو أردوغان، لسببَين، أهم شخصية سياسية في تاريخ تركيا الحديث، والسبب الأول أنه أكثر من جلس على المقعد الأول لأكثر من عشرين سنة، نصفها كرئيس حكومة والنصف الثاني كرئيس دولة بصلاحيات واسعة، بعد أن قام بالتحالف عام 2017 مع حزب الحركة القومية اليميني في استفتاء دستوري لنقل نظام الحكم من برلماني إلى رئاسي تنفيذي، وهكذا حكم أردوغان خلال ولايته الثانية كرئيس دولة بصلاحيات مركزية ما بين عامَي 2018 – 2023، بعد أن كان رئيساً للدولة بصلاحيات شكلية ما بين عامَي 2014 – 2018.
في هذه الانتخابات التي جرت منتصف هذا الشهر، ورغم أن أردوغان وحزبه قد فازا بانتخابات الرئاسة والبرلمان، إلا أنهما واجها ليس منافسة قوية من المعارضة وحسب، ولكنهما، اضطرا فيما يخص انتخابات الرئاسة أن يخوضا جولة ثانية، (وذلك يحدث للمرة الأولى في تاريخ تركيا) فازا بها بشق الأنفس، وفي الانتخابات البرلمانية فازا بـ 321 مقعداً شاركهم فيها حزب الحركة القومية المعارض الذي تحالفوا معه ليشكلوا قائمة “تحالف الجمهور” ويشكلان معاً يمين الوسط السياسي، مقابل 213 للمعارضة.
أي أن تركيا تبدو منقسمة سياسياً، خاصة حول قضايا اللاجئين والسياسة الخارجية، وبعد تضخم بلغ 50%، وبعد زلازل وقعت هذا العام وأودت بحياة 50 ألف شخص مع التسبب بدمار هائل، والحقيقة أن تحدي حكم الإسلاميين المتواصل منذ عقدين، قد بدأ بشكل جدي وصاخب، منذ أربعة أعوام، أي منذ نجح أكرم أوغلي في الفوز برئاسة بلدية إسطنبول، التي تعتبر مهمة جداً، لتحديد وجهة تركيا السياسية المقبلة، رغم فوزهم بمعظم البلديات ومنها بلدية العاصمة، وقد يعود ذلك إلى أن تولي أردوغان نفسه رئاسة بلدية إسطنبول، قبل ثلاثة عقود، مهد له الطريق لتولي رئاسة تركيا، والآن هناك خمس سنوات أمام أردوغان وحزبه، عليهما خلالها أن يساهما في إرساء تداول حقيقي للسلطة وإلا سيجري إقصاؤهما من الحكم.
المصدر: الأيام الفلسطينية