الرئسيةذاكرةرأي/ كرونيكشواهد على التاريخ

علي بندين يكتب: الرفيق إبراهيم ياسين، ومضات ومواقف

بقلم علي بندين فاتح فبراير 2024

منذ بضعة أسابيع فقدنا رفيقا من أعز الرفاق ومن أنبل الرفاق، إنه الرفيق إبراهيم ياسين، وقد يكون عزاؤنا الوحيد فيه أن نستحضر بعضا من مواقفه ومساهماته النضالية واجتهاداته السياسية والفكرية، فنستخلص منها دروسا وعبر قد نستفيد منها و يستفيد غيرنا ممن سيستمر على الدرب.

من بعض المواقف والمحطات التي كان للرفيق إبراهيم ياسين دور أساسي بل حاسم فيها، والتي بقيت راسخة في ذاكرتي: مسألة علاقة القضية الوطنية ومعركة الديمقراطية، والتداعيات التنظيمية للموقف من دستور 1996 داخل المنظمة، والربط بين الفساد والاستبداد وأخيرا حركة 20 فبراير.

في بداية الثمانينات، وأثناء انعقاد الندوة الوطنية الثانية أو الثالثة لمنظمة العمل الديمقراطي الشعبي في المراحل الأولى للشرعية القانونية (أي قبل أن ينعقد أول مؤتمر وطني وتصبح للمنظمة لجنتها المركزية المنتخبة)، وقد كان أحد أهم محاور النقاش يدور حول تطورات قضية الوحدة الترابية، في فترة كان فيها الصراع حول الصحراء على أشده بما فيه الجانب العسكري، وكانت عدد من التدخلات قد حاولت مقاربة العلاقة بين النضال من أجل الوحدة الترابية والنضال من أجل الديمقراطية، وتتجاذبها إما أولوية الوحدة الترابية عل الديمقراطية أو بالعكس أولوية الثانية على الأولى.

حينها جاء دور الرفيق ياسين، فبدا لي وأنا كمستمع جديد على هذا المستوى من النقاش داخل الهيئات القيادية أن تدخله قد سار في اتجاهين متناقضين.

أولا التركيز على أولوية القضية الوطنية، لدرجة أنه أشار إلى أنه من الواجب الاستعداد حتى لاحتمال نشوب حرب موسعة، لكن في الجزء الثاني من تدخله ركز على استجماع كل الطاقات لخوض معركة النضال الديمقراطي على كل الجبهات بما فيها معركة الانتخابات التشريعية آنذاك.

لكنه وكأنه قد قصد أن يرد على هذا التناقض الوهمي بجملة معبرة مفادها: “إن قضية الوحدة الترابية هي قبل وبعد قضية الديمقراطية، كما أن قضية الديمقراطية هي قبل وبعد القضية الوطنية”، لأن من يتخلي عن معركة الوحدة الترابية بمبرر غياب الديمقراطية يقر ضمنيا بصحتها في حالة تحقق الديمقراطية، والحال أن القضايا العادلة تظل كذلك قبل وبعد تحقق أية قضايا عادلة أخرى، كما أن من يتخلي عن معركة الديمقراطية أو يبرر تأجيلها بمبرر أولوية القضية الوطنية فإنما يفقد هذه الأخيرة زخم الإجماع الشعبي حولها حين يسوِغ قبول واقع الاستبداد والفساد بضرورة الدفاع عن الوحدة الترابية.

ادعيت لنفسي ساعتها أنني قد فهمت ما قصد… ولكن لحد الآن أجد صعوبة في صياغة هذه الفكرة في شكل أسهل للفهم العام.

لكن إذا ربطنا هذه العبارات بسياق النقاش الذي كان يدور، ليس فقط داخل هذه الندوة بل داخل تيارات اليسار، فيمكن أن نقول أنه رد سياسي وفكري بل منهجي على موقفين تبسيطيين: يتوهم أحدهما أن الحماس للدفاع عن القضية الوطنية أو حتى مجرد الانخراط المبدئي في معركتها سيجعلنا في صف نظام الاستبداد وبالتالي سيعيق تعبئة شعبنا حول معركة الديمقراطية، ويرى الموقف المقابل، باسم الإجماع حول القضية الوطنية، أن أي تصعيد في النضال الديمقراطي أو حتى الاجتماعي سيضعف جهود الدولة في الدفاع عن الوحدة الترابية. وبذلك يكون قد يكون قد أوجز في عبارة مركبة -قد تبدو متناقضة- الرد على الموقف العدمي من القضية الوطنية والموقف المتخاذل في معركة الديمقراطية.

في محطة أخرى ذات طبيعة سياسية وتنظيمية جد معقدة، أذكر اقتراحا ثاقبا للرفيق ياسين حينما خرج مجموعة من الرفاق بموقف معاكس لقرار هيئات المنظمة بخصوص مشروع دستور 1996 وأعلنوا عن ذلك في ندوة صحفية، عرفت آنذاك بندوة أوطيل حسان، ويقضي بالدعوة للتصويت بنعم على ذلك المشروع.

فبعد انتشار الخبر تداعى عدد من الرفاق إلى مقر جريدة أنوال منهم أعضاء في الكتابة الوطنية وآخرون من خارجها، وعلى ما أذكر فإن الرفيق ياسين لم يكن عضوا في الكتابة في تلك الفترة، ولكنه حضر طبعا وتحمل مسؤوليته النضالية كما هي عادته في كل المحطات الفارقة كيفما كان موقعه التنظيمي.

وكان السؤال الذي يدور في ذهن كل رفيق\ة وفيما بين الرفاق هو كيف يمكن التعامل تنظيميا وحتى قانونيا مع هؤلاء الرفاق الذي “تمردوا” على القرار السياسي الذي اتخذته الهيئات الشرعية للمنظمة بخصوص مشروع الدستور الذي طرحته السلطة؟ هل يتم اتخاذ قرار للفصل في حقهم؟ وفي هذه الحالة من طرف أية هيئة في المنظمة وهل لدينا الوقت لانتظار اجتماع اللجنة المركزية مثلا ونحن مقبلون على استفتاء بعد أيام؟ فقال الرفيق ياسين بدون تردد وبجملة واحدة وواضحة: “لقد وضعوا أنفسهم خارج المنظمة”. وبعد ساعات صدر بلاغ الكتابة الوطنية حاملا نفس الصيغة. ففهم الجميع الرسالة السياسية والتنظيمية، وأولهم أصحاب مبادرة أوطيل حسان الذين يبدو أنهم فوجئوا بسرعة وصرامة الرد.

من القضايا التي كان الرفيق ياسين سباقا إلى إعطائها الصدارة في البرنامج الساسي العام هي قضية محاربة الفساد. نعم كانت تنظيماتنا دائما تشير إلى الفساد بعبارات الشجب والاستنكار وقد تدعو إلى مكافحته ولكن لم تضع معركة محاربة الفساد ضمن أولويات برامجها السياسية إلا خلال سنوات ما بعد 2000. فخلال أشغال اللجنة التحضيرية للمؤتمر الثاني -على ما أذكر- للحزب الاشتراكي الموحد (الحزب الذي بالمناسبة كان للرفيق ياسين الدور الرئيسي الأول في المبادرة إلى تشكيله من اندماج أربعة فصائل يسارية ثم فصيل خامس)، كانت أهم نقطة برنامجية ركز عليها الرفيق ياسين هي معركة محاربة الفساد والتأكيد على الارتباط البنيوي بينه وبين الاستبداد السياسي.

ولا يزال الجميع يذكر له قولته بهذا المعنى: “الفساد في المغرب بنيوي وليس مرضا عارضا”، بل أكد أن الفساد له جذور تاريخية منذ مرحلة الاستعمار. وخلال ذلك النقاش حول الفساد كان الرفيق يذكر مثلا شعبيا يشير به إلى ارتباط الفساد بالاستبداد ويقول ذلك المثل: “اللي بغى ينقي الدروج كيبدا من الفوق”.

وكانت أهم محطة نضالية انخرط فيها الرفيق ياسين بكل قواه الفكرية والسياسية هي حركة 20 فبراير، وتابع تفاصيلها قراءة وتحليلا وكتابة وتأطيرا للعديد من اللقاءات والندوات في مختلف مناطق المغرب.

فمنذ إطلاق النداء الأول للتظاهر يوم 20 فبراير 2011، وخلال النقاشات الأولية على هامش انعقاد الهيئات الحزبية، وقد كانت أيامها اللجنة التحضيرية للمؤتمر الثالث تعقد اجتماعاتها المفترض أنها الأخيرة قبل المؤتمر، ورغم تردد بعض القيادات الحزبية في الاقتناع بأن الشباب سينجحون في إخراج الجماهير إلى التظاهر في اليوم الموعود، فإن الرفيق ياسين وبعد اتصالاته مع بعض الرفاق المنخرطين فعليا في التحضير لذلك الحدث وكذا بعض الشبان والشابات الداعين إلى التظاهر وأغلبهم ممن لم تكن لهم أية علاقة تنظيمية بالحزب، فقد حسم أمره وقرر ليس فقط دعم الحركة الوليدة بل الانخراط الشخصي فيها ودعوة مناضلات ومناضلي الحزب وهيئاته لهذا الانخراط.

ففي صبيحة ذلك اليوم المشهود، كان الرفيق ياسين حاضرا بباب الأحد بالرباط، وليس بمراكش التي كان يقطن بها، وللحقيقة فقد كانت كل قيادات الحزب بما فيها المقيمة في مدن أخرى متواجدة ذلك اليوم في قلب الرباط.

وارتباطا بجزئية التظاهر بمدينة الرباط تحديدا، كان لي نقاش مع الرفيق بعد ذلك بأسابيع حول فكرة كانت راجت بين عدد من تنسيقيات الحركة وتم تبنيها وتنفيذها في بعض الأحيان، ومفادها ضرورة نقل التظاهر إلى “الأحياء الشعبية”. وكان رأي الرفيق مخالفا لهذه الفكرة لأنه كان يرى أن المظاهرات بوسط المدن وخاصة بالعاصة السياسية تحمل دلالة سياسية أقوى وأثر إعلامي داخلي وخارجي أكبر، أما توسيع مشاركة “الفئات الشعبية” في تظاهرات الحركة فيتعين أن يتم من خلال نزول حملات التعبئة إلى أحيائها من أجل تحريضها على النزول إلى وسط المدن للمشاركة في التظاهرات.

وفي نهاية الأسبوع الموالي عند انعقاد المجلس الوطني للحزب الذي كان مفترضا أن يحسم في الإجراءات النهائية لعقد المؤتمر الوطني، كانت أشغال المجلس كلها تدور حول برنامج العمل لدعم حركة 20 فبراير والانخراط الكامل فيها.

وهنا أيضا كان الدور الرئيسي للرفيق إبراهيم ياسين. فقد تكلف بصياغة أهم بيانات المجلس الوطني للحزب حول دعم حركة 20 فبراير التي تضمنت قرارات “الانخراط الكامل فيها كحزب بكل طاقاته البشرية وإمكانياته المادية واللوجيستسكية”. كان يتحدث من وراء صفوف أعضاء المجلس الوطني المجتمعين، فيصيخ له السمع كل الحاضرين، ولا ينهي تدخله، الذي يكون عادة قدة حضر نقطه الرئيسية على ورقة صغيرة يمسكها بيده، إلا وقد أوجز الخلاصات السياسية واستكملها باقتراح الإجراءات العملية والتنظيمية الضرورية لتطوير الدعم والانخراط في الحركة.

كانت تلك بعض المواقف والومضات عن بعض مساهمات الرفيق إبراهيم ياسين، من بين أدوار فكرية ونضالية كثيرة لذلك الرفيق العزيز والتي قدرت حينها أنها استثنائية ومميزة وأشعر الأن بعد رحيل الفقيد أنها تعبر عن الشخصية المتفردة لهذا المناضل الفذ.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى